انتهت هزلية
الانتخابات الرئاسية المصرية كما خطط لها أصحابها من الناحية الشكلية؛ حشودا
صناعية، وصورا زائفة، لكنها تفي بالغرض لمصوريها ومخرجيها، ربما كان الخروج الطفيف
عن النص، هو ارتفاع عدد الأصوات الباطلة (مليون ونصف المليون9 وتبوأها المركز
الثاني كما كانت في انتخابات 2014 وعلى عكس ما أراد المخرج لعدم إحراج "الكومبارس"
الجديد الذي قبل بأداء المهمة الدنيئة فازداد بهذا الوضع دناءة.
أما من الناحية
الموضوعية فيمكن أن نقرأ العديد من الرسائل لهذه الانتخابات ومقاطعة غالبية
المصريين لها، وهذه الرسائل موجهة للنظام والمعارضة والشعب والمجتمع الدولي أيضا.
لقد أكدت هذه المقاطعة
استمرار أزمة غياب الشرعية عن النظام الحاكم والذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري
في الثالث من يوليو 2013، ولم تفلح جهوده على مدار خمس سنوات في اكتساب شرعية
الرضا الشعبي، وحتى في أوج قوته في هزلية 2014 لم يشارك في الانتخابات أكثر من 10%
من المصوتين، وهو ما دعا القنوات الفضائية لإطلاق صيحات الاستغاثة وقتها لإنقاذ
الموقف، ومع توالي فشل نظام السيسي في تحقيق أي إنجازات حقيقية تعود بالنفع
المباشر على المواطنين، ومع تبخر الوعود الكبرى والمشاريع الضخمة التي وعد بها
السيسي تزايد الغضب الشعبي ضده، ليطال جماهير كثيرة، ونخبا كانت داعمة أساسية له من
قبل، واختفت مظاهر الاحتفاء به، حتى إن الأغنية الرسمية لعهدة( تسلم الأيادي)،
ومعها شقيقتها ( بشرة خير ) اختفتا من الشارع، وأصبحتا محل تندر وتهكم.
وحين حل موعد تجديد اغتصاب
السلطة لأربع سنوات جديدة كان السيسي ورجاله وأذرعه يدركون الحقيقة المرة، وهي
انفضاض غالبية المصريين عنهم فلجأوا إلى أسلوب التهديد إضافة إلى الرشاوى
الانتخابية المباشرة، وقد أظهرت عمليات الترويع والتهديدات المباشرة للمرشحين
المحتملين، وكذا للناخبين مدى خوف السيسي من الانكشاف التام في الهزلية
الانتخابية، ولذا فقد سعى لتغطية هذا الانكشاف بحشود وهمية أمام اللجان لزوم
الصورة التي يريد بعثها للعالم.
الشباب والأصوات
الباطلة
وفقا للنتائج الأولية
التي رشحت من اللجنة العليا للانتخابات ظهر أن نسبة المصوتين (الوهمية) 42% ( ورغم
التحفظ الشديد على هذا الرقم المبالغ فيه) إلا أنه أظهر تراجعا عن النسب الرسمية
المعلنة في 2014، ما يعني اعترافا من تلك اللجنة بتراجع شعبية السيسي، وإذا عدنا
للأرقام والنسب التي أعلنتها جهات مستقلة مثل مركز تكامل الذي حدد نسبة المشاركة
عند 2.6% فإننا نكون أمام غياب حقيقي لأي شرعية عن السيسي ونظامه، وما زاد الطين
بلة أنه وفقا للنتاج الأولية الرسمية فإن عدد الأصوات الباطلة تجاوز المليون ونصف
المليون مواطن وهؤلاء جميعا ممن أجبرتهم الأجهزة الأمنية والإدارية على المشاركة
قسرا، وكل هذا يؤكد أن السيسي خرج من هذه العملية أكثر افتقادا للشرعية الشعبية،
وهو ما يرسخ استمرار وضعية الانقلاب العسكري.
غاب الشباب عن هذه
المسرحية كما غاب عن سابقتها في 2014، رغم عديد مؤتمرات الشباب التي نظمها السيسي
خلال العامين الماضيين، وقدم خلالها لهم العديد من الوعود، والتي تبخرت مع غيرها،
وما كان لشباب فجروا ثورة يناير 2011، وتنسموا عبير الحرية والكرامة، وشاركوا من
قبل في انتخابات حقيقية برلمانية وطلابية ورئاسية بعد الثورة، وشاركوا في عشرات
المظاهرات والإعتصامات دون إذن أو اعتراض من أحد، ما كان لكل من عاش تلك التجربة
أن يسمح لنفسه أن يشارك في مسرحية هزلية معروفة النتائج مسبقا.
وفي مقابل غياب الشباب
عن هذا المشهد، تصدر الشيوخ والعجائز الخائفين من قطع أرزاقهم وتأميناتهم، أو حتى
المحبين للإستقرار بشكل عام، وكانت الرسالة البارزة لذلك أن الماضي هو الذي يصوت
للسيسي بينما الحاضر والمستقبل يناصبه العداء،
الانقسام المجتمعي
ودور المعارضة
وبعيدا عن الجدل حول
نسب المشاركة والمقاطعة فقد ظهر من خلال هذه الانتخابات استمرار حالة الانقسام
المجتمعي التي زرعها الانقلاب من أول يوم، حين قسم المصريين إلى شعبين، يخاطب
أحدهما بعبارات المودة والحنان، فيما يصف النصف الآخر بالإرهاب، ورغم أن مظاهر الانقسام
المجتمعي كانت آخذة في التراجع خلال السنتين الأخيرتين مع تصاعد الإحباط الشعبي من
فشل السيسي وخياناته، إلا أن الطغمة الحاكمة حرصت على إحياء روح الانقسام مجددا،
وأطلقت العنان لأذرعها السياسية والإعلامية للتحريض وبث الكراهية بين المصريين،
ومواجهة أي أصوات تدعو للمصالحة المجتمعية، لأن هذا النظام يتغذى على فرقة
المصريين.
وإذا كان نظام السيسي
قد خسر الكثير في هذه الانتخابات رغم فوزه المعلن والمعروف سلفا، فإن المعارضة
بجناحيها الداخلي والخارجي لا يمكنها أن تنسب نجاحا لنفسها، فقد كانت المقاطعة
الواسعة خيارا شعبيا، بعد تصاعد فشل السيسي وخياناته، ولكن من واجب مناهضي ومعارضي
السيسي الآن استثمار هذا الموقف الشعبي الذي يمثل نوعا من العصيان المدني الهادئ،
وتطوير هذه المعارضة، وتوجيهها في المسار الصحيح من خلال طرح خارطة طريق واضحة
لإسقاط هذا النظام، ولاسترداد المسار الديمقراطي الحقيقي.
معركة الصورة
أدرك النظام مبكرا
حالة العزوف والمقاطعة الشعبية الواسعة المحتملة للانتخابات فاستعاض عن ذلك بتصنيع
صورة لحشود كبيرة أمام اللجان الانتخابية لتصديرها للعالم الخارجي الذي يتعامل مع
السيسي كرجل مريض يطلب العلاج دوما من العواصم الكبرى عبر صفقات بمليارات
الدولارات لا تحتاجها مصر، ولمواجهة تلك الضغوط الخارجية سعى السيسي لتصدير تلك
الصور الوهمية عن حشود الناخبين، وسخر كل وسائل إعلامه لصناعة هذه الصورة، متداركا
ما حدث في انتخابات 2014 التي صرخت فيها القنوات عن خواء اللجان، فأحكم هذه المرة
قبضته على كل وسائل الإعلام ، إما بشرائها بشكل تام، ونقل ملكيتها لشركات تابعة
للمخابرات الحربية، وإما عبر التوجيهات والأوامر والتهديدات المباشرة، وحين خرجت
إحدى الصحف اليومية (المصري اليوم) عن النوتة النظامية تمت إحالتها لنيابة أمن
الدولة على الفور، كما تم حجب موقع (المنصة) الذي كشف خديعة مراقبي الكونجرس
الأمريكي.
لكن قدرة النظام على
السيطرة على الإعلام الداخلي لم تستطع السيطرة على الإعلام الخارجي، بشقيه
(الإعلام الغربي) و(الإعلام المصري الذي يبث من الخارج)، أما الإعلام الغربي فقد
نجح عبر مراسليه الذين غطوا الانتخابات في العديد من المحافظات في نقل الصورة
الحقيقية، لا الصورة التي أراد النظام تصديرها، وامتلأت الصحف والقنوات الأجنبية
بتغطيات وتحليلات عن عمليات الترهيب والترغيب التي صاحبت الانتخابات والتي نزعت
عنها الجدية وحولتها إلى مجرد مسرحية هزلية تتراقص فيها النساء أمام اللجان،
ويستحضر لها الأطفال الخ، ويغيب عنها الشباب و الناخبون الحقيقيون، كما تغيب عنها
أي مظاهر للمنافسة الحقيقية.
أما الإعلام المصري في
الخارج والذي يوصف من قبل النظام بـ"إعلام الإخوان" فقد نجح بدوره في
نقل الجانب الآخر للصورة الذي حرص نظام السيسي على إخفائه في اللجان البعيدة عن تركيزه،
ورغم الملاحقات الدائمة لمراسلي هذه القنوات في مصر، وعدم ظهورهم في أي مكان إلان
أن قنوات المعارضة نقلت صور اللجان الخاوية، كما نقلت صور عمليات الترهيب الشديدة
للمواطنين لإجبارهم على المشاركة والتصويت، ونقلت الرشاوى التي تقدم علنا
للمواطنين، وأفسدت بالتالي على السيسي ونظامه ما وصف بالعرس الديمقراطي!!.