الحقيقة التي اعترف بها أحيانا أمام نفسي هي أن قدرتي على عدم
الاندهاش تتضاءل كثيرا أمام قدرة البعض على إنتاج كل هذا الظلم. هذا الاندهاش الذي
سيطر على مشاعري وأنا انظر إلى زبيدة الجالسة أمام عمرو أديب ترد بنعم أو لا على أسئلته.
هذا الاندهاش الذي رأيته أنا نفسي سذاجة. لكن الحقيقة أن هناك مساحات في نفسك قد
تغيب عنك مهما كانت خبراتك. اكتشفت أنني اندهش رغم كل ما مر أمام أعيننا من مشاهد
في السنوات التي تلت الانقلاب العسكري. نعم.. أنا (ويا لدهشتي) ما زلت قادرة على
الاندهاش!
أندهش
من قدرة كل هذه الشخصيات العامة الانقلابية على كيل الاتهامات بهذه الصلابة لفتاة
لا يعرفونها. اندهش فعلا من هذه القدرة لدى البعض على استخراج كل هذا الرصيد من
القسوة لمجاملة (الدولة) التي قررت تدمير حياة فتاة بلا رحمة.
الأمر
هنا يتجاوز فكرة الانتصار للرواية الحكومية في موضوع ما، فهناك لحظة ما تتوقف فيها
عن كل هذا وتسأمه. اذكر قصة شهيرة لمذيع في تليفزيون حكومي بإحدى الدول الأفريقية
التي يحكمها ديكتاتور انقلابي ما، والتفاصيل لا تحضرني، لكني أذكر ما قرأته أن
المذيع كان يقدم النشرة فقطعها بشكل مفاجئ، وقال (أنا لم اعد احتمل ترديد هذه
الأكاذيب) ثم غادر الأستوديو. وصحيح أن بعض هؤلاء يصدق حقا الرواية الحكومية وربما
كانت هذه الآلية الدفاعية النفسية التي يمتلكونها للتخفف من أعباء أي صوت خافت قد
تصدره بقايا ضمير، فيصبح الأمر بالنسبة لهم أن (الحكومة لا تكذب) وبالتالي فإن
زبيدة وغيرها على خطأ وهم كاذبون ومصر مستهدفة ثم ينجرفون إلى تصديق نكتة (حروب
الجيل الرابع) .. إلخ
لكن
في لحظة معينة قد يتصرف البعض كذلك المذيع ويقررون أنهم سأموا تلك الأكاذيب. وانهم
لم يعودوا شركاء في هذه المظالم وكفى ما قد كان. الحقيقة أن ما يدهشني هو تلك
الصلابة التي يمتلكها هؤلاء في وجه أي وخزات لضميرهم قد تسببها أي تناقضات عقلانية
في الرواية الحكومية التي لا يقبلها العقل الطبيعي في كثير من الأحيان.
لابد
أن هناك من بين من شاركوا في 30 يونيو تائبين. لا أتحدث هنا عن نخب، بل أتحدث عن
أشخاص عاديين خدعهم الإعلام. أنا نفسي قرأت تعليقات بعض هؤلاء من قبل وتحدثت مع
بعضهم. لا ريب أن من بين هؤلاء من شاهد لقاء عمرو أديب مع زبيدة. لا ريب أنه اسند
رأسه إلى كفيه وقد أضيفت إلى عمره مائة سنة. من المرعب أن يتصور البعض أنهم شاركوا
في فتح الطريق أمام هذا الظلم. لولا تلك الخطوات اللاهية العابثة التي خطوها إلى
التحرير بعدما خدعهم الإعلام لما ظهرت زبيدة مع عمرو أديب.
التفكير
في 30 يونيو على طريقة فيلم تأثير الفراشة، ذلك الفيلم الخيالي الذي تقوم فكرته
على أن شابا كان باستطاعته تغييرات اختياراته في لحظات معينة، ليجد نفسه وقد تغير
مسار حياته ثم يعود إلى نفس النقطة ليختار اختيارا جديدا ليسير في مسار مختلف.
التفكير أنهم كان بإمكانهم إلا يذهبوا وبالتالي ألا يشاهدوا فتاة تُدعى زبيدة على
الشاشة مع عمرو أديب. لا ريب أن شعورا عميقا بالذنب يثقل كاهلهم.
الحقيقة
أنني لم استطع مقاومة دموعي وانا أرى زبيدة جالسة زائغة النظرات بملامح يبدو عليها
الرعب. قارنت بين نظرات عينيها المنطفئتين وبين لمعة عينيها في صورتها الشخصية.
هذه القدرات العجيبة لدى البعض على الحاق الأذى بالضعفاء ومن لا حيلة لهم تدهشني.
ولو كان من المفهوم أن يتحرك عسكري الانقلاب وتسانده في هذا مؤسسات دولته لإنقاذ
نفسه من عنان الذي ترشح لانتخابات الانقلاب، فإنه يصبح من المثير للدهشة أن ترى
انقلابا عسكريا بكل مؤسساته يقف ليفبرك قصة تبدو للجميع واضحة الكذب ثم ليتخلى عن
أي شعور بالخجل ليعتقل والدة الفتاة التي أكلت النار قلبها على ابنتها.
لا
بد أن تصاب بالدهشة وأنت ترى دولة بمؤسساتها تقف ضد زبيدة تحاول سحقها وإسكات صوت
والدتها.