هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مشاهد الغوطة السوريالية في دمويتها وهمجيتها تذكرنا مرة أخرى بأننا إزاء
مرحلتين من التاريخ، إذ تجذبنا إلى العصور الحجرية؛ حيث القتل العشوائي هو
القاعدة.
وبما أن داعش هو العنوان الطاغي على معنى الهمجية كونيا، فإننا إذ
نرى أي فعل غارق في الدموية فإننا نستحضر عملا داعشيا. يبقى أن الفعل الداعشي لا يقوم
به داعش حصرا. وهنا ما الفرق بين داعش ونظام الأسد؟ ألا ينحصر الفارق في نهاية الأمر
في استخدام داعش لفيديوهات الاستعراض المتقونة في الذبح الدموي، في حين يستغني
النظام عن ذلك، ويترك مهمة التصوير لضحاياه ليكتفي فيما بعد في أقصى الحالات
للادعاء بأنها فيديوهات مفبركة من قبل الجزيرة؟
ألا ينحصر الفارق أيضا في حرص داعش على إعلان تكفير ضحاياها قبل إعدامهم،
في حين يعدم النظام دون محاكمة لاهوتية أو علمانية؟ ألا ينحصر الفارق، أخيرا، في أن
داعش يستخدم وسائل القتل التقليدية المنسوبة للمتن الشرعي، من سكين وإلقاء من علٍ
والرجم بالحجارة، في حين يعتقد النظام أن ذلك أمر مكلف، وعليه فهو يستعمل وسيلة
اقتصادية أكثر، مثل غاز السارين والبراميل المتفجرة التي تحصد أكثر ما أمكن بأقل
تكاليف ممكنة؟ عدا عن كل ذلك، فإن داعش باسم النظام السوري وبصفة "الجيش
العربي السوري" هي القصف الراهن لإحدى ضواحي دمشق، الغوطة الشرقية.
الآلية التبريرية لماكينة الدمار هذه تتركز في نقطة أساسية؛ وهي أن
الجماعات المسلحة "داعشية" التوجه، وبالتالي فكل السكان المقيمين في تلك
المناطق يستحقون تدميرا بلا رحمة. هذا طبعا من الأساطير المؤسسة للنظام في سوريا،
أي ما دام هناك إرهاب، فإن إرهاب الدولة شرعي تماما.
في مؤلف جديد بعنوان "الأنظمة التسلطية العربية، حاضنة الإرهاب"،
بإشراف أنور البني، والصادر عن مركز القاهرة لدراسة حقوق الإنسان (2017)، تم
التعرض بشكل مكثف للعلاقة السببية بين الإرهاب والاستبداد العربي. أحد أوائل
المقالات التي كتبها الكاتب السوري ياسين الحاج صالح تركز بشكل خاص على النظام
السوري، حيث يقول: "زود صعود داعش في سوريا الدولة الأسدية بقضية تتجاوب مع
غرائزها الأساسية، وأولها غريزة حفظ السلطة، ومحاولة نيل شرعية دولية لها، أعني
شرعية رضا الأقوياء، تمييزا عن الشرعية المستمدة من رضى السوريين أو المبنية
عليه. وعلى الفور تقريبا انعكس ظهور داعش وصعودها بضرب من إعادة اعتبار دولية
جزئية لدولة الاأسديين، وتحديدا من قوى بدت لبعض الوقت أميل إلى نزع الشرعية عن
تلك الدولة".
وهنا توجد الغوطة في العلاقة التأسيسية الحميمية بين نظام دمشق
وداعش: "كان انقضى أكثر بقليل من أربعة شهور على استقلال "داعش"
عن القاعدة، وقت وقعت المجزرة الـكيماوية في غوطة دمشق في 21 آب/ أغسطس 2013، وسقط
خلال ساعة واحدة نحو 1500 من السوريين، ثلثهم أطفال. وبعد تهديدات مترددة بمعاقبة
النظام عسكريا، تمسك الأمريكيون بمخرج روسي يقضي بتسليم النظام سلاحه الكمياوي.
كانت هذه الصفقة المشينة ترخيصا بقتل السوريين بأسلحة أخرى، سهّل من أمرها وجود
كائن مستحيل مثل داعش. بهذا المعنى، أنقذ داعش الدولة الأسدية.
قد يقال إنه لا
حقوق للناس ولا سياسة في سوريا أصلا. نعم، ولـكن لا ريب في أن اندراج الدولة الأسدية
في ما يسمى الحرب على الإرهاب، هو القوة الخفية وراء عدم رؤية التفظيع بالسوريين، وقتل العشرات منهم كل يوم بالبراميل المتفجرة وتحت التعذيب والحصار والجوع".
لكن والآن "داعش" قد غادر، بقي الغطاء قائما، ويواصل نظام دمشق
التقتيل بهمجية داعشية وبلا رادع. ما حصل هو أن النظام بقي يقتات من ذلك وسيواصل. فالغطاء
الدولي لم تنته صلاحيته: "وفّر داعش للنظام قضية، لدى القوى الغربية، والأمريكيين
بخاصة، استعداد طيب لتبنيها: مكافحة الإرهاب.
في خطابه في تموز/ يوليو 2015، ذكر
بشار الأسد الإرهاب مرارا وتكرارا، ولم يذكر داعش قط ولا القاعدة. كان ظاهرا أن
الرجل الصغير يريد قولا يخاطب كبار عالم اليوم: إن الإرهاب هو كل من يعترض على
نظامه القاتل، وأنه شريك في محاربته!"
الترابط التاريخي بين نظام الأسد والإرهاب الداعشي يعود، حسب مقال لأنور
البني في الكتاب ذاته، إلى ما أبعد من ذلك، حيث يكون تأسيس النظام هو الأساس
الموضوعي للإرهاب: "لم تعرف سوريا مسألة الإرهاب الواسع في تاريخها الحديث إلا بعد استلام حزب البعث للسلطة في سوريا؛ وربما كانت البدايات بأواخر
السبعينيات، حيث قام تنظيم الطليعة المقاتلة، أو ما عرفت بمجموعة مروان حديد
التابعة لحزب الإخوان المسلمين، بمجموعة اغتيالات، كان أشهرها اغتيال الضابط
محمد غرة بحماه واتهامها باغتيال العلّامة محمد الفاضل (كان له الفضل الأكبر
بتفصيل الدستور السوري الصادر عام 1972 على قياس جسد حافظ الأسد، الذي فرض على
سوريا موجة احتجاجات كبيرة)، والقيام بعدة تفجيرات في عدد من المحافظات السورية، كان أشهرها حادثة مدرسة المدفعية بحلب، حيث قام أحد الضباط الإسلاميين بفتح النار
على زملائه، فقتل حوالي ثمانين طالب ضابط وصف ضابط بالعملية".
يختم البني بشكل منطقي محاججته: "المشكلة ليست بالأفكار
المتطرفة، فهي موجودة لدى كل الأديان والأيديولوجيات والمرجعيات السياسية
والفكرية والعقائدية دون استثناء، وفي كل المجتمعات وكل الأزمنة، ولـكنها دائما
كانت هي مجرد جرائم مرفوضة تحت أي يافطة أو شعار. المشكلة تتجلى في إيجاد
البيئة الملائمة لهذا الفكر، وحاضنة اجتماعية وسياسية وثقافية له، وغياب المحاسبة
والعدالة الحقيقية".