في سنوات الطلب الأكاديمي، كانت
مراكش دولة تشغل الركن الشمالي الغربي من أفريقيا، ثم اتخذت تلك الدولة اسما جديدا هو المملكة
المغربية، وترسخ الاسم الجديد منذ العقد الثاني من القرن العشرين، بعد أن انتزع محمد الخامس الاستقلال من فكي كل من فرنسا وإسبانيا، ومع هذا ما زالت هناك لغات تسمي المملكة المغربية باسمها القديم (الفارسية= مراكش، والإنجليزية= موروكو، والإسبانية= مارويكوس).
غادرت المغرب قبل أيام قلائل وفي نفسي شيء من مراكش، وإذا كان في ما أكتبه عن مراكش اليوم، وما
كتبته عنها بالعنوان أعلاه الأسبوع الماضي، ترويج للسياحة فيها، فهذا شرف لا أدّعيه وتهمة لا أنكرها: العرب ينفقون 27 مليار دولار على
السياحة الصيفية في أوروبا وآسيا سنويا، وكشخص زار معظم بلدان تلكما القارتين، فإنني أقول بضمير مستريح إنني لم أجد في أي منهما بهاء يأسر القلب والعقل كذاك الذي وجدته في المغرب.
أقول هذا لأنني مسحت المغرب أرضا وجوا، وما وقعت عيناي إلا على كل ما هو رائع وبهيج، فكل شبر في البلاد يملأ العين، ويسر الخاطر، ولكن كل أنحاء المغرب كوم، ومراكش هرم وليس مجرد كوم آخر.
ابتعد عن المدينة لنحو ثلاثين دقيقة، واطلع، وتطلع معك روحك المعنوية في العلالي، فعلى قمم جبال أطلس تمر بستي فاطمة (يكتبونها فاضمة)، وتتجه صوب أوريكا، حيث القمم الثلجية لترى المئات من مختلف السحن والأجناس يمارسون التزلج على الجليد.
تخيل يا قارئي العزيز: تزلج على الجليد في أفريقيا، بصحرائها الكبرى وخط الاستواء، حيث تلفح الجسوم حرارة الشموس، وتشويها كالقرابين على نار المجوس، ولهذا فسكانها بلون الأبنوس، يتهادى فيها المتزلجون من مختلف الأجناس على الجليد ومن حولهم أقواس قزح:
ها هنا يختلط القوس الموشى
ها هنا من كل دار كل ممشى
نتلاقى كالرياح الاسيوية
كأناشيد الجيوش المغربية
واقرأ تاريخ المغرب منذ نهاية العصر الأموي، وستجده حافلا ببسالات ونضالات جيوش وطنية صاغت تاريخ البلاد الحديث.
وفي المساء توجه الى ساحة جامع الفنا، لتجد نفسك في بحر متلاطم من البشرـ يتحلقون حول فرق الإنشاد ومروضي القرود والثعابين، وباعة كل شيء من الحلزون المشوي الى ساعات الرولكس، والباعة هناك ملحاحون وثرثارون، ولهم آذان تسمع رنة درهم في المريخ.
ولأن مراكش في وسط جنوب المغرب، فإنها تجذب العديد من مواطني غرب أفريقيا، وتخصصهم في ساحة مسجد الفنا، والسوق القريب منه، بيع ساعات رولكس وهواتف آيفون وغلاكسي بأسعار زهيدة للغاية.
وما يؤكد عروبة المغرب، هو أن كل عملية شراء وبيع تخضع لـ"المفاصلة"، وهكذا أقنعت أحد أولئك الغرب أفريقيين أن يبيعني هاتفا ذكيا يعمل - على ذمته - بالدفع الرباعي، بخمسة وعشرين دولارا، بشرط أن يعطيني عليه ضمانا لمدة شهر!! فقال: خليها شهرين، فقلت له: على بركة الله، دعني أرى بطاقتك الشخصية لأعرف كيف أتواصل معك لاحقا، وهكذا فشلت الصفقة لأن صاحبي اختفى. ربما حسب أنني مخبر تابع للشرطة.
أكثر ما يزعج السائح في المغرب، التعامل مع سيارات الأجرة "التاكسي"، فرغم أنها مزودة بعدادات، إلا أن معظم سائقيها يحددون تكاليف كل رحلة شفاهة، بحيث تكون ضعف التكلفة بموجب قراءات العداد، وبعد أخذ وشد يتم التوصل الى سعر معقول. ولكن وفي كل مدن المغرب الكبرى، توجد شركات تاكسي محترمة، لديها مواقع على الإنترنت، تعطيك معلومات دقيقة عن المدة التي تستغرقها الرحلة من مكان إلى آخر، مع "التسعيرة" الثابتة.
والمشكلة الكبرى التي تواجه السائح العربي، وهو يتفاهم ويفاصل سائقي التاكسي، تكمن في اللغة، وبالتحديد في اللهجة المغاربية المشبعة بالفرنسية. ومع هذا فليس من العسير أن يتم التفاهم مع أي مغربي بتقديم "طرفين" لتنازلات عن لهجتيهما، وتطعيم الكلام بمفردات فصيحة بسيطة.
كنت ذات صيف في جزيرة بينانغ في ماليزيا، عندما سمعت ملاسنة طرشان بين سائح وسائق سيارة أجرة، وكان السائح يستعين بمفردات عربية لتعزيز إنجليزيته المكسَّرة، بينما السائق، شأنه شأن معظم الماليزيين، يفتك بالإنجليزية، بأسوأ مما فعل الهنود بها، حتى اضطر الإنجليز الذين حكموا الهند زهاء قرن كامل؛ إلى اتخاذ قرار مهم: هل نحافظ على الهند وهي تاج إمبراطورتينا أم لغتنا؟ وقرروا التخلي عن الهند، لإنقاذ لغتهم التي زعزع الهنود معمارها.
سألت الطرف العربي في تلك الملاسنة عما تسبب فيها، فقال إن كل ما في الأمر هو أنه طلب من السائق أن يوصله إلى تل سياحي معروف في بينانغ، ولم يكن يعرف أن التل "مشبوه" بحيث يثير ثائرة السائق، فلما قلت للسائق إن صاحبي لم يوجه إليه أي إساءة تجعله يغضب ويثور في وجهه، كان رده: هذا الرجل مارس أقصى درجات الوقاحة معي؛ لأنه ركب في سيارتي وقال لي: قو تو هيل go to hell، وتعني حرفيا: اذهب إلى الجحيم، فضحكت وقلت للسائق: هو يريد أن تذهب به إلى الـ"هِل" hill، وبدلا من كسر حرف "إتش/ الهاء" اكتفى بإمالته. فضحك السائق وصافح السائح العربي، وانطلقا الى التل وليس الى الجحيم.
ولكن هناك مشكلة لغة مستعصية تواجه كل زائر للمغرب لا يجيد الفرنسية، فنحو 80 في المئة من اللافتات الإرشادية في كل المدن مكتوبة فقط بالفرنسية، ومعظم المتاجر يتسمى فقط بالفرنسية، ولغة التخاطب في جميع الفنادق هي الفرنسية: بنجور بغ بغبغ. بنسوار بغ بغبغ، فترد عليهم بالعربية، فيردون عليك بعربية أحسن منها!!
طيب يا جماعة الخير أمام جميع أقسام الفنادق أرقام الغرف وأسماء من يشغلونها، ومن المؤكد أن جعفر بن عنترة بن شداد العبسي عربي بدرجة أو بأخرى، فلا تـ"بنجروه" صباحا وتـ"بنسروه" مساء، ولا يضير بلدا يكسب المليارات من السياحة أن يلزم جميع المنشآت بأن تكون لافتاتها بالعربية الى جانب الفرنسية (ومعهما الإنجليزية).
افعلوا ذلك حتى لا يستذكر سائح عربي تجربة المتبني في شِعب بوَّان (الجنة المخفية) في فارس:
مغاني الشِّغب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ملاعب جِنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
وليس في أمر التاكسي، واللغة الهجين ما ينغص تجربة السياحة في المغرب، فبهاء التاريخ وروعة الطبيعة، وجمال روح الناس لغة صامتة- صارخة، تتسلل إلى الوجدان بلا لسان.
ومع كامل اعتذاري للشاعر اليمني، عبد العزيز المقالح، أهتف: لا بد من مراكش وإن طال السفر، فقد مضى من العمر معظمه، ولا طاقة لي بصنعاء أو صعدة، فقد قررت اعتناق النظرية الجمالية "الماركشية"، بعد أن شبعت من قبح النظريات الأخرى، وستبقى مراكش في القلب ما بقيت على ظهر الأرض.