سوتشي.. ذاك المشهد الحزين

تقول الرواية التاريخية إن مدينة سوتشي كانت مدينة شركسية خالصة، تسمى ساتشا، وتعني رأس السيف بالشركسية. كان ذلك قبل أن تستولي عليها روسيا القيصرية، عقب حرب طاحنة مع الشركس دامت مئة عام، انتهت بتهجير أهلها الأصليين إلى أراضي الدولة العثمانية عام 1864م. حيث لم يبق فيها شركسي واحد.

لا ندري على وجه الدقة، أبتدبير بشري أم بتقدير إلهي تم اختيار سوتشي، تلك المدينة التي عاشت أول إبادة جماعية في تاريخ أوروبا الحديث؛ لتشهد اجتماعا للسوريين دُعّوا إليه دعّا. ربما شاءت أقدارهم أن ينتقل حظها العاثر إليهم، ليضيف محنة أخرى لمأساتهم، فيزيدها جراحا فوق جراحهم.

مظهر سوريالي يدعو للحزن والألم والشفقة ساد مؤتمر سوتشي.. بضع عشرات من المحسوبين على المعارضة رفضوا الدخول إلى سوتشي، فبقوا في مطارها، بحجة نكوص الروس عن تلبية ما اتفقوا عليه معهم، من تعديل يافطات المؤتمر التي تحمل علم النظام فقط، وإيقاف القصف على إدلب! هتافاتهم واحتجاجاتهم وحركاتهم الاستعراضية لم تجد نفعا، فقرروا الرجوع إلى أنقرة، من حيث أتوا، بعد محاولة لتجريب المجرب.. و"من يجرب المجرب عقله مخرب"، كما يقول المثل الشعبي.

في الجهة الأخرى، تجمهرت قطعان البعثيين التي أرسلها نظام الأسد لتقوم بدورها المهرجاني المعهود، مكاء وتصدية وهتافا للقائد الخالد، مضيفين روسيا وبوتين لجوقة هتافاتهم هذه المرة.

نظام الأسد لم يحضر بصفته الرسمية، إنما أرسل شخصيات من حزبه البعث، والجبهة الوطنية التقدمية، وشخصيات مدنية محسوبة عليه، مثل رئيس غرفة تجارة دمشق، الذي تولى إدارة الاجتماع، فكفى بشار الجعفري مؤونة تحية الجيش العربي السوري.

طائفة من يسمون أنفسهم معارضة الداخل، ممن نقلتهم طائرات النظام من دمشق إلى سوتشي، لم يختلفوا عن أعضاء الجبهة الوطنية إلا بالتسميات، ربما لأن ذلك يتيح لهم حصة مضمونة بالكعكة.

والحق يقال، فثمة شخصيات محسوبة على المعارضة الخارجية، ممن خالفوا القرار الوطني، وخرجوا على إجماع مؤسسات المعارضة الوطنية، التي رفضت مؤتمر سوتشي من أساسه لأنه يعيد إنتاج النظام، لم يكونوا أقل انتهازية من هيثم مناع وقدري جميل وأحمد الجربا، حيث كانوا حريصين على الظفر بقطعة من الكعكة مهما كان الثمن، لكنهم رجعوا مع سواد الوجه بخفي حنين.

يفتخر السوريون بأنهم أصحاب أقدم عاصمة عرفها التاريخ لا زالت على قيد الحياة. لكنهم اليوم شراذم تتقاذفهم الدول، كما يتقاذف اللاعبون الكرة.. تمزقهم القوى الاستعمارية بتجاذباتها، وتفرقهم بتقاسم نفوذها، وتسرق أحلامهم بمؤتمراتها.

صورة مأساوية حزينة أخرى، تلك التي ظهر فيها الدكتور أحمد طعمة، رئيس الحكومة السورية المؤقتة سابقا، وهو نائم في "كوريدور" مطار سوتشي، واضعا حذاءه تحت رأسه، دفعت السوريين لفتح أدراجهم العتيقة، ليستخرجوا منها صورة وفدهم من الكتلة الوطنية الذي سافر إلى باريس عام 1946م. ولم يرجع حتى وضع صك الاستقلال والخلاص من الاستعمار الفرنسي في جيبه.

المقارنة بين الصورتين، صورة أحمد طعمة التي مثلت بؤس المشهد في سوتشي من جانب، وصورة وفد الكتلة الوطنية بأناقته وعنفوانه الوطني على الجهة المقابلة، عكست واقع السوريين الأليم بكامل قتامته وسوداويته.. مقارنة ذاب لها القلب من كمد، وملأت مآقي العين دما.

وبينما كان وزير الخارجية الروسي لافروف يتحدث عن السلام والحوار والحل في سوريا، كانت طائراته الحربية تدك المستشفيات والأسواق الشعبية، لتقتل العشرات من المدنيين السوريين الآخرين، ممن أصبح قتلهم حدثا اعتياديا في القاموس الدولي، وفي نفس الوقت الذي كانت فيه أركان القاعة ترتج من هتافات البعثيين المصفقين لبوتين وجيشه!

تمخض مؤتمر سوتشي فولد لجنة لصياغة الدستور قوامها 150 شخصا، بعضهم لا يحملون شهادة جامعية، ناهيك عن الاختصاص بالقانون الدستوري. وسيضاف إلى هؤلاء 50 شخصا من طرف المعارضة! لجنة تضم مئات الأشخاص أنى لها أن تكتب دستورا؟!

من كلف هؤلاء؟ ومن اختارهم؟ وما هي مرجعيتهم؟ والأهم من ذلك كله: متى كتب دستور دولة يفترض فيها أن تكون مستقلة في بلد آخر؟!

ليت عجائب سوتشي توقفت عند هذا الحد، فقد ضمت قاعة الاجتماع أشخاصا متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، على رأسهم معراج أورال بطل مجزرة البيضا التي راح ضحيتها عشرات القتلى من النساء والأطفال، وعددا من شبيحة النظام الذين ارتكبوا جرائم قتل وسلب ونهب ضد المدنيين!

من جملة العجائب أيضا، أن الزمن المخصص للشخص الواحد لم يتعد 15 ثانية فقط، فعن أي حوار يتحدثون؟! وبالرغم من التغطية الإعلامية الروسية الاحترافية لوقائع المؤتمر، إلا أننا لم نحظ برؤية خمسة أشخاص مجتمعين، ولا أقل من ذلك ولا أكثر. فقد عجزت وسائل الإعلام الروسية والعالمية معها عن اتحافنا بهكذا مشهد!

البيان الختامي بحد ذاته أعجوبة فريدة من نوعها، فهو يتضمن نفس أفكار المبعوث الأممي ديميستورا، التي طرحها في مؤتمر جنيف8، والتي تعامل معها وفد المعارضة الممثل بالهيئة العليا للمفاوضات إيجابيا، بينما رفضها النظام! الآن من خلال البيان الختامي لسوتشي، يعاد طرحها وكأنها طبخة طازجة وأفكارا جديدة! لكن النظام في حل من الالتزام بها، فهو لم يحضر المؤتمر بصفة رسمية، كما أن قطعان البعث التي حضرت لا تمثل النظام ولا تلزمه قانونيا. إذ يستطيع النظام ان يتملص منها، وأن يرفضها كليا.

يد خفية مدت فأيقظت النائم في "كوريدور" المطار (السيد أحمد طعمة) ليعقد مؤتمرا صحفيا، ينيب فيه الخارجية التركية باسم المعارضة السورية/ الشعب السوري، ويوكل للأتراك مهمة تمثيل السوريين في مؤتمر سوتشي!

مؤتمر سوتشي، فضلا عن كونه أضاف عقبة أخرى في طريق حل الأزمة السورية، فقد كان فوضى في الإعداد، وارتجالا في الأداء، وضعفا في النتائج والمخرجات.