هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وددت لو أنني أفردت سانحة هذا الأسبوع للحديث عن الفاجعة التي ألمَّت بمدينة بنغازي حيث وقع العشرات ما بين قتيل وجريح جراء عمل إرهابي، وما لحقه من عمل إرهابي مضاد على إثر تصفية عدد من المعتقلين على يد ضابط في الجيش بشكل صادم وفي تحدي سافر للقيم والأخلاق والقوانين المحلية والدولية وما رافقهما من إدانة صريحة للعمل الإرهابي الأول وتغاضٍ عن الثاني من قبل من كنا نعتقد أنهم رعاة دولة القانون والحقوق.
ولكن وعدت في مقالي السابق بتناول مسألة ارتفاع الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية في السوق الموازية، ولأن التراجع كان استثنائيا خلال اليومين الماضيين قررت أن التزم بما وعدت به.
وأبدأ بالقول إن النظرية الاقتصادية في شقها المتعلق بتوازن الأسواق بأنواعها تقوم على فكرة تقاطع العرض والطلب من السلع أو العملات عند نقطة توازن تدفع إليها جملة من العوامل الاقتصادية وغيرها ويتحدد من خلال هذا التقاطع السعر التوازني.
وفي الحالة الماثلة أمامنا والتي شهد فيها الدينار ارتفاعا مقابل الدولار في السوق الموازي يفوق الـ 110% عما كان عليه خلال الأسابيع الماضية، فإن جملة السياسات والإجراءات التي أعلن عنها المصرف المركزي الليبي مؤخرا دفعت بمعادلة توزان عرض وطلب العملات إلى المستوى الذي وصل إليه اليوم.
المنطق العلمي يقول بأن تراجع سعر الدولار أمام الدينار ناجم عن زيادة في المعروض من الأول من قبل التجار والمضاربين في العملات والوسطاء والأشخاص العاديين الذي تحصلوا على الدولار من خلال المخصصات الأسرية بقيمة 400 دولار للفرد وذلك خوفا من خسارة كبيرة بعد الإعلان عن ضخ مليارات الدولارات في شكل اعتمادات ومخصصات الأسر وغيرها.
بالمقابل فإن الطلب على الدولار في السوق الموازي تراجع بسبب حالة عدم اليقين وطمعا في الحصول على ما يحتاجه تجار السلع والبضائع ومن يطلب الدولار لأغراض خاصة مثل العلاج وغيره من المصرف المركزي بعد الوعود التي قطعها الأخير بتوفير المطلوب من العملات الصعبة بالسعر الرسمي وهو 1.4 دينار للدولار لهذه الفئات.
إذا نقطة توازن سوق العملات بسبب ازدياد العرض وتراجع الطلب كانت عند السعر المنخفض والذي سجل 4.20 دينارات للدولار بالأمس بعد أن وصل 9.6 خلال شهر ديسمبر.
التراجع السريع والكبير في قيمة الدولار أمام الدينار جعل كثيرون يتفاءلون بأن يصل الدولار إلى مستوى السعر الرسمي أو قريب منه، وأعتقد أن هذا مستبعد، ويعود ذلك إلى جملة العوامل التي تتحكم في تحديد مستوى أسعار الدينار وأبرزها المساهمة الكبيرة للسوق الموازية في تحديد سعر صرف الدينار، وارتباك مواقف المصرف المركزي وغياب الاستقرار السياسي وضعف السلطات التنفيذية والرقابية وتفشي الفساد.
إن الحالة السياسية الهشة والتي من أبرز مظاهرها تعدد الحكومات وتشرذم واختلال الجهاز المصرفي وتغول مجموعات فاسدة والتي هي اليوم قادرة على التأثير سلبا في السياسات والقرارات السيادية والتي منها قرارات المصرف المركزي والحكومة ممثلة في رئيسها ووزارتي المالية والاقتصاد يمكن أن تقصر الأثر الإيجابي لبرنامج الإصلاح الذي اعتمده المصرف المركزي والحكومة في المدى القصير.
بمعنى أنه لا تتوفر ضمانات لتنفيذ البرنامج الإصلاحي أو حتى ضمانات تحقيق النتائج المرجوة منه في حالة الشروع في تنفيذه وفق المخطط له.
أنا ممن يجزمون بأن السياسات النقدية والمالية في زمن الأزمات الحادة التي منشأها بالأساس سياسي تحتاج إلى درجة من الاستقرار السياسي مظهره في الحالة الليبية التوافق بين القوى السياسية المتنازعة ليشكل اتفاقها الشامل حماية ودعم للبرنامج الاقتصادي.
المطلوب لتحقيق استقرار الأسعار عند مستوى منخفض السير في مسارين متعاضدين أولهما الاستمرار في تفعيل السياسة النقدية والتقدم خطوة في اتجاه الإصلاح النقدي من خلال إعادة النظر في سعر صرف الدينار المقرر من قبل المصرف المركزي.
وإن كان هناك تخوف من المساس بالسعر الرسمي للدينار أمام الدولار فيمكن تبني سعرين أحدهما الرسمي والآخر تجاري، وذلك بأن يصدر المصرف المركزي قرارا بتداول العملات الأجنبية عند سعر مساو أو أقل بقليل من السعر في السوق الموازية، ويخفض هذا السعر تمشيا مع الانخفاض في السوق الموازي حتى يصل إلى مستوى السعر الرسمي.
وثانيهما تدعيم الخطوة السابقة وما قبلها من خطوات بتحقيق درجة مقبولة من الاستقرار السياسي والأمني عبر إنهاء الانقسام السياسي وتوحيد المؤسسات العامة وتقوية الحكومة والجهات الرقابية وفرض النظام بحيث يمكن القضاء على الأثار السلبية للمنظومة الموازية التي لها دور كبير في إضعاف المؤسسات السيادية والتحكم في سعر صرف الدينار في السوق الموازي.