قضايا وآراء

مَنْ صَنَعَ أمريكا؟

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

التعرُّف إلى روافد الوجدان الأمريكي تعرُّف لروافد الحضارة المهيمنة على الكوكب، والتي انتقلت أنماط تفكيرها ومعيشتها إلى سائر شعوب الأرض، بما فيها شعوب "العالم الإسلامي"؛ بدءا بالنظام الاقتصادي الرأسمالي- الليبرالي، وانتهاء بأيديولوجية الاستهلاك ومنتجات "الثورة التقنيَّة". وخلال القرن العشرين، صاغ خمسة أشخاص وجدان الولايات المتحدة الأمريكية كما نعرفه اليوم، إذ أعادوا صياغة واقعها وتصوراتها؛ فأسهموا بالتالي في إعادة تشكيل الوجدان الإنساني مع موجات العولمة والأمركة التي اجتاحت الكوكب.

وقد خلف هؤلاء الخمسة إمبراطوريّات تتجاوز الواحدة في ضخامتها عدّة دول مُجتمعة، إمبراطوريّات لا تحكم الولايات المتحدة فحسب، وتُشكِّل صورتها الذهنية الذاتية وصورة الآخرين عنها، بل تحكُم العالم بصورة غير مباشرة؛ ربما كان أهون تجلياتها هو التقليد.

 

خلف هؤلاء الخمسة إمبراطوريّات تتجاوز الواحدة في ضخامتها عدّة دول مُجتمعة، إمبراطوريّات لا تحكم الولايات المتحدة فحسب، وتُشكِّل صورتها الذهنية الذاتية وصورة الآخرين عنها


أول هؤلاء الأباطِرة هو والت ديزني، مؤسس مجموعة ديزني وصاحب أعمق تأثير في الثقافة الإنسانيَّة الحديثة منذ الحرب العالميَّة الثانية. إذ استعمرت الشخصيَّات الكاريكاتوريَّة التي ابتكرها خيال أجيال كاملة، وهو الأمر الذي يتنامى باطراد من خلال استحواذ الشركة على أية كيانات يُحتمل أن تُمثل منافستها خطرا: ستوديوهات بيكسار (2006م)، وستوديوهات مارفِل (2009م)، وفوكس القرن العشرين (2017م). أما ثاني الأباطِرة، فهو بِينِتْ سيرف، مؤسس دار نشر راندوم هاوس، أحد أكبر الناشرين في العالم (اندمجت عام 2013م مع دار بنغوين الشهيرة)، وهو الأب الشرعي لـ"ثورة" نشر الكتابات الكلاسيكيَّة العالميَّة في طبعات ورقيَّة منخفضة التكلفة إبَّان ثلاثينيات القرن العشرين، مما جعل الكتاب في متناوَل كل قارئ باللغة الإنكليزيَّة. وثالثهم هو ريموند كروك، مُكتشف مطاعم مكدونالد للوجبات السريعة ومطوِّرها، حتى صارت أقواس مكدونالد الذهبيَّة أشهر وأكثر انتشارا من علامة الصليب! بل صار وجودها في دولةٍ ما مؤشرا على تمام دمج الدولة في منظومة الاقتصاد الرأسمالي. أما رابعهم، فهو هنري فورد، مؤسس شركة فورد لصناعة السيارات، ومبتكر خط الإنتاج الكبير (فوردزم fordism)، الذي صار عصب الصناعة في العصر الحديث، وشكَّل نقلة، لا في الاقتصاد الرأسمالي فحسب، بتدشين عصر الإنتاج والاستهلاك الجماهيري الضخم، بل أعاد تشكيل تصورات الإنسانيَّة لذاتها وطرائق اجتماعها، خصوصا في المجتمعات الصناعيَّة الحديثة. أما خامسهم، فهو سام والتون، أحد آباء الثورة الاستهلاكيَّة، ومؤسس أكبر سلسلة متاجر تجزئة في العالم؛ "وول مارت Walmart"، المتجر الذي يبيع كل شيء، حرفيّا.

والتعرُّف إلى سير هؤلاء وفهم دوافعهم وطبيعة إنجازاتهم، ومآلات هذه الإنجازات؛ يضع أيدينا على حقيقة التغيُّر العميق الذي حدث في وجهة الإنسانية إبَّان القرن العشرين، ويَكشِفُ معالم الفلسفة الماديَّة التي بدأت هيمنتها على العالم مع مشروع مارشال، عَقِب الحرب العالميَّة الثانية.

***

وإذا كان خمسة من رجال المال والاقتصاد قد صاغوا وجدان أمريكا وأيديولوجيتها النيوكولونيالية في القرن العشرين، لتخرُج معهم وبهم من مرحلة التراكم الرأسمالي إلى مرحلة التبديد الاستهلاكي، فإن العقل والوجدان الأمريكي، الذي اطرد ليُفرز هذه الأيديولوجية، قد تشكَّل ابتداء بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من ثلاثة روافد رئيسيَّة؛ ليتخذ صورته النهائيَّة في محضن ما يُسمى بالحرب الأهلية الأمريكية، إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

 

هذه الروافِد، جنبا إلى جنب مع شخص أبراهام لنكولن وطموحه، هي التي تبلورت منها الهويَّة الأمريكية والدين الأمريكي في بوتقة الحرب الأهلية، وصارت بها المستعمَرة السابقة صاحبة شخصية مستقلة

أول هذه الروافِد هم البيوريتان البروتستانت (وتحديدا طائفة من الكالفينيين)، الذين شكَّلوا النمط الاقتصادي الرأسمالي وثورته الصناعية، وهيمنوا - ولا زالوا يُهيمنون - على الاقتصاد الأمريكي والعالمي مُمثلين لطبقة الواسب (Wasp): البروتستانت البيض عرقيّا أصحاب الأصول الأنغلوسكسونيَّة (White Anglo-Saxon Protestant). ويمكن تلخيص فلسفتهم في أن رضا الرب يتجسَّد في "النجاح" المادي داخل الدنيا، خصوصا النجاح الاقتصادي. وهو النجاح الذي يؤدي تراكمه وتكاثفه اجتماعيّا لظهور الفردوس الأرضي. وثاني هذه الروافِد؛ هي حركة الترانسندنتاليين (Transcendentalists) الفلسفيَّة، وهي المدرسة الرومانتيكية الأمريكية في الأدب والفكر، التي مزجت القيم التي شكَّلت لاحقا عصب البراغماتية ببعض التديُّن البيوريتاني وعناصر من الفلسفة المثالية الألمانية والعرفان الإسلامي الإيراني، فأكَّدت الفردانية واكتفاء الإنسان بذاته ما خُلّي بينه وبين الطبيعة/ المادة، ليتشكَّل على أيديها الدين الأمريكي الجديد. وهي تعتبر أول حركة أو تيار ثقافي أمريكي حقيقي، ولا زالت أكثر أدبيات رموزها، خصوصا رالف والدو إمرسون وهنري ديفيد ثورو ووالت ويتمان وإيملي ديكنسون ومرغريت فوللر، أهم الكلاسيكيات الأمريكية بإطلاق، ومصدر إلهام مُتجدد ومعين لا ينضب لكل أمريكي متوسط التعليم أو الثقافة. وأما ثالث الروافد، فهم البراغماتيون، أو أصحاب الفلسفة البراغماتيَّة/ الذرائعيَّة، وأهم رموزها: تشارلز بيرس، ووليم جيمس، وجورج سنتيانا، وجون ديوي. وهي فلسفة تُقيِّمُ الفكر أو الفعل بناء على نتيجته العمليَّة وفعاليته في الواقع، بغض النظر عن قيمته الأخلاقيَّة أو مرجعيته النهائيَّة. وهي في ذلك ليست فلسفة بالمعنى النظري التقليدي، وإنما هي اطرادٌ عملي للإطار "العملي" الإمبريقي الذي أحياه ووضع لبناته؛ فرانسيس بيكون في منهجه، المستقى من المسلمين، وطوَّره جون لوك في ذات الإطار الأنغلوسكسوني. وهو الاطراد الذي يسوغ أي فعل وكل فعل يُحقق الهدف الذي ينشده القائم بترشيد الواقع.

هذه الروافِد، جنبا إلى جنب مع شخص أبراهام لنكولن وطموحه، هي التي تبلورت منها الهويَّة الأمريكية والدين الأمريكي في بوتقة الحرب الأهلية، وصارت بها المستعمَرة السابقة صاحبة شخصية مستقلة عن الشخصية الأوروبية. بل ومهَّد اجتماعها وتضافرها لظهور جيل الاقتصاديين والصناعيين؛ الذين عبَّروا بوسائل شتى عن هذه الهوية وهذا الدين الجديد، وصاغوا ملامح ما عُرِف لاحقا بالحلم الأمريكي.. "الحلم" الفردوسي العبثي الذي تُطارده الإنسانية المغلوبة، تقليدا للحضارة الأمريكية الغالبة؛ حتى صار كابوسا.

التعليقات (1)
اينشتاين
الأحد، 15-04-2018 01:33 ص
هل من مدخل إلى المجتمع الأمريكي حتى يتحول إلى مجتمع ذي صبغة ربانية غالبة ؟