هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في معظم بلدان العالم بما فيها العالم العربي، ثمة إعلام للأحزاب قائم، ينطق باسمها، يشيع لمنظومتها شكلا وفي العقيدة، يساير حركة زعمائها في الترحال وفي منطوقهم، ولا يرى من قيمة اعتبارية تذكر لإعلام آخر، معارض له أو منافس.. إعلام يتماهى مع حزبه فيدعيا معا "فكرا واحدا"؛ لا يأتيه الباطل لا من أمامه ولا من خلفه.
وثمة إعلام قائم دونما وجود حزب له معلن. لم يضع في إنشائه "دفتر تحملات سياسيا"، وليس مجبرا على تخصيص حيز لنشاط الزعيم، ولا بوضع صورته بالألوان في صفحة الاستهلال. هو إعلام بلا حزب (أو هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى) في مقابل إعلام حزبي، متحزب، يتحدد وجوده بوجود الحزب، وينتهي بانتهائه.
هما نوعان من الإعلام لا تحكمهما نفس "المرجعيات"، ولا لهما نفس التطلعات والغايات:
- فإعلام الحزب هو صوت الحزب الذي لا يعلو فوقه صوت.. هو صورة طبق الأصل (أو يكاد) لفعل الحزب وتفاعله، لا يزيغ عنها قيد أنملة، أو ينوء عن ضرورة إشاعتها في منخرطيه وفي غيرهم، في حين أن حزب الإعلام ليس من المفروض فيه أن يحتكم إلى منظومة سياسية ذات خلفية إيديولوجية، أو إلى سلوك جماعي تفرضه الأغلبية، وليس مطالبا، فضلا عن ذلك، بالخضوع لتوجيهات الزعيم أو "لحسابات المرحلة".
إعلام الحزب تحكمه "ثقافة الانضباط"، وطقوس التضامن الحزبي، في حين أن حزب الإعلام ليس محكوما بذات الثقافة، ولا هو مطالب بإعمال مبدأ الانضباط
نعني تلك الكتابات الصحفية التي لا تشفي المنابر الحزبية غليلها، أو تراها مقصرة في وظيفتها
حزب الإعلام، الذي نقصد في هذا المقام، لا نعني به فقط إعلام من لا حزب له، ولا نعني به إعلام مجموعة صحفيين لم تستهوهم "الوظيفة" الحزبية للإعلام. إننا نعني به تلك الكتابات الصحفية التي لا تشفي المنابر الحزبية غليلها، أو تراها مقصرة في وظيفتها، أو تعتبرها (في الحد الأقصى) متواطئة في تسويف الواقع، وتدجين المواطن، والتجاوز على حاله ومستقبله.
هو، على هذا الأساس، "حزب" رأي ليس من الضروري أن تتقاسم أفكاره صحف الأحزاب. وهو "حزب" لا يستهجن ذات الصحف بقدر ما يطالب بضرورة أن يكون لها حزب خاص، يكون الاحتكام فيه لا إلى منظومة مرجعية قارة، بل إلى "أخلاقيات في المهنة" تحكم الأداء وتحاسب على العطاء.
هو "حزب" لا يتطلع للسلطة أو يعمل بجهة بلوغها، بقدر ما يعمل على أن يكون سلطة مضادة (وإلى ما لا نهاية بحكم طبيعته) كائنة ما تكن السلطة القائمة أو "الحزب القائد".
وهو "حزب" لا يدعي امتلاكه لمشروع مجتمعي، بقدر ما يطالب بضرورة إقامته أو المساهمة في صياغته. وهو، فوق كل هذا وذاك، "حزب" لا يتطلع لتكوين إطار أو تأسيس هيئة سياسية، بقدر ما يتطلع لبناء مشروع اجتماعي وثقافي، تكون السياسة بصلبه عامل تجنيد وتأطير، لا أداة احتكار للسلطة أو ممارسة للعنف من خلالها.
ليس لـ"حزب" الإعلام منخرطون بالبطاقات، ولا مناضلون بالهوية، ولا هم ممثلون محليون بمدن أو بمحافظات. قد يكونون كذلك، لكن هم أيضا صحفيون فقهوا الإعلام الحزبي، ومثقفون "عضويون"، وأصحاب أقلام مستقلة، ومروجو رأي وأفكار.. هم متعاطفون مع الإعلام تعاطف المتحزب مع حزبه. هم ليسوا بالضرورة كلمة الحزب، بقدر ما هم (أو هكذا يدعون) حزب الكلمة.. لا اعتبار يذكر فوقها أو من خلالها (أو هكذا المفروض).
بالتالي، فإذا كان لنا أن نسلم بهذا، فلن يتعذر علينا التسليم بأن ذات "الحزب" لا يكترث كثيرا بما يصبو إليه الصحفي (المهووس بالمهنية والعملية، وضبط الشكليات الصحفية)، بقدر ما تهمه الآراء والأفكار، ويحكمه منطق نسبة القراءة.
"حزب" الإعلام لا ينحصر فقط في الإعلام غير المتحزب الذي غالبا ما تتعاطاه صحافة لا تنطق باسم هذا الحزب أو ذاك، بل يتعدى الأمر ذلك إلى أفراد كانوا متحزبين إلى حين
لما أصبحت ظاهرة الانشقاقات الحزبية بالعديد من الدول هي القاعدة، فإنه يبدو من الطبيعي أن "يتزايد الطلب" على ما نسميه هنا بـ"حزب الإعلام"