قضايا وآراء

"عن الإنترنيت كساحة حرب خفية"

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
قلنا، بمقال سابق، بأن القانون السائد بالفضاء الافتراضي ليس قانون هذه الدولة أو تلك، بل هو نتاج احتكاكات السلط والنفوذ فيما بين بعضها البعض، أي نتاج موازين قوى، الغلبة فيه لمن يتحكم في تقنيات ذات الفضاء وأدواته، وله المقدرة على تحديد مساراته في الزمن والمكان.
 
والشاهد على ذلك أن شركات الإعلام والمعلومات والاتصال الكبرى (جوجل، أمازون، آبل، فايسبوك، ضمن آخرين) قد أضحت من القوة التكنولوجية والاقتصادية والمالية ما تجعلها لا تعير كبير اعتبار للقوانين القائمة، ونادرا ما تقبل بالانصياع لقانون هذه الدولة أو تلك، لحذف مضمون ما أو لسحب معلومات عن هذا المستعمل أو ذاك، اللهم إلا في الدول ذات التشريعات المتشددة، حيث قد تقبل الشركات إياها ببعض التنازل مقابل الحفاظ على تواجدها بهذه الدول، والاحتفاظ بمستعملي شبكاتها وتطبيقاتها...
 
لا تأتي "المضايقات" على السيادة الوطنية للدول من هذه الزاوية فحسب، بل تأتي أيضا من تجاوز التيارات المالية لذات السيادة بواسطة الشبكات الرقمية العابرة للحدود، والتي قد يكون من شأنها تدمير هذا الاقتصاد أو ذاك، أو وضعه على محك أزمات مالية قد لا تستطيع السياسات العمومية التقليدية مواجهتها، أو اعتراضها، فما بالك التصدي لها بالحزم المطلوب.
 
قد يسلم المرء بأن هذه التهديدات ليست جديدة، ولا هي وليدة أو من صنيعة ثورة الإعلام والمعلومات والاتصال (أو شبكة الإنتريت حتى)، لكنه لا يستطيع إلا أن يسلم بأن هذه الثورة قد أججتها (التهديدات أقصد)، وسعت من مجالها وعملت على تسريع منسوب انتشارها على نطاق كوني كبير.
 
ولعل مكامن الخطر في هذه التهديدات أنه ليس من المؤكد ولا من الهين توقعها أو استشراف حجمها، أو مدى الأضرار التي قد تحملها أو نطاق المجالات التي قد تعصف بها في طريقها. ولذلك، فإن الخبراء يعتبرون أن الفضاء الافتراضي قد بات حقا وحقيقة، "أشبه بحقل عسكري" يعتمل به ما يعتمل بالفضاءات الأخرى، الجغرافية والبحرية والجوية، مع الفارق الجوهري أن الفضاء الأول قد بات يخترق كل هذه الفضاءات مجتمعة، عموديا وعلى المستوى الأفقي.
 
بالتالي، فإننا بإزاء هذا "الفضاء الجديد" إنما بإزاء انبعاث سلطات جديدة تتجاوز الدول والقوانين والتشريعات، وتخترق الحدود وترفع بالمحصلة تحديات كبرى، من المتعذر معها إعمال السياسات التقليدية، أو خلق سلط مضادة لمواجهتها، أو إبداع متاريس ومسلسلات ديموقراطية ناجعة للتصدي لها في الزمن والمكان.
 
يترتب عما سبق من حديث ثلاث خلاصات أولية كبرى:
 
+ الخلاصة الأولى، أن البراديغمات الاستراتيجية التقليدية، وجزء كبير من قواعد اللعبة التي كانت ولعهود طويلة الخيط الناظم للعلاقات الدولية، لم تعد صالحة تماما لقراءة أو فهم البراديغمات الاستراتيجية الجديدة، والتي أفرزت قواعد لعب جديدة، بفاعلين جدد وبفضاء لم يكن معهودا ولا قائما في السابق من أزمان.
 
+ الخلاصة الثانية، أن سرعة التطورات التكنولوجية باتت أقوى وأشد من وتيرة صياغة، إذا لم يكن إطارا قانونيا عالميا جديدا، فعلى الأقل توافقات بين الدول يكون من شأنها "درء مفاسد" القائم الجاري، واستجلاب مصلحة القادم المتموج.
 
+ أما الخلاصة الثالثة فتتمثل في القول بأن محاولات استنبات حكامة "للفضاء الافتراضي" متوافق حول مفاصلها بهذا الشكل أو ذاك، لن يكون من شأنها، أو لنقل لن تفلح في ضبط مجال "خارج القانون"، إلا إذا بنيت على قناعة تعتبر ذات الفضاء جزءا لا يتجزأ من الفضاء العام، الذي لا يجب تضييق سعته بالقوانين واللوائح والتشريعات، بل صيانته كي يكون دعامة للتعددية بالمجال إياه، وحاضنة للحرية، ورافعة لحقوق الأفراد والجماعات.
 
لو كان لنا أن نقيس موازين القوى العالمية، بالبناء على ما تحمله شبكة الإنترنيت من رهانات جيو/سياسية وتحديات جيو/استراتيجية، لتبين لنا خللها واختلالها، بما لا يساعد حتما على ضمان حكامة للشبكة إياها شفافة، عادلة، منصفة وضامنة للحقوق.
 
إن الهيمنة الأمريكية على شبكة الإنترنيت (وعلى الخدمات على الخط تحديدا) وقدرة شركاتها على معالجة مختلف أشكال المعطيات المقتنية لذات الشبكة، ناهيك عن فرضها للمعايير التقنية التي تؤطر هذه الأخيرة، إنما تمنح الولايات المتحدة الأمريكية امتيازا استراتيجيا لا مجال للمكابرة بشأن الاعتراف بحقيقته.
 
من هنا يتفهم المرء احتجاج الاتحاد الأوروبي، ثم العديد من الدول الصاعدة، مثل الصين والبرازيل وإلى حد ما روسيا، على طبيعة ذات الهيمنة، والمخاطر التي تجرها من خلفها، لا سيما على ضوء تسريبات سناودن، والتي أبانت أن الهيمنة إياها إنما تحولت إلى أداة تجسس على قادة العديد من دول العالم، ناهيك على مواطنيها ومقاولاتها ومرافقها الحساسة، العسكري منها كما المدني على حد سواء.
 
"سطوة" الولايات المتحدة على الإنترنيت، بنية تحتية وأجهزة وتطبيقات وخدمات ومضامين وتدبير معطيات...الخ، لا تثير تخوفات الدول الكبرى فحسب، بل دفعت بالعديد من الدول النامية الصاعدة (لا سيما دول البريكس، حيث المعلومات باتت عصب نموها وتنميتها) إلى تصميم شبكات معلومات خاصة بها، مؤمنة ومتحكم في مفاصلها.
 
صحيح أن إنشاء "شبكات إنترنيت" وطنية أو إقليمية من شأنه أن يفجر المنطق الذي تأسست عليه الشبكة/الأم (وحدانية العناصر التقنية واندماج المكونات المعلوماتية تحديدا)، إلا أن ذلك لا يبدو بالنسبة للعديد من الدول مسوغا معقولا، فما بالك أن يكون مقبولا، في ظل استمرار الولايات المتحدة في اعتبار شبكة الإنترنيت رهانا جيو/سياسيا قوميا، لا يمكن أن تقتسمه مع "الآخرين"، أصدقاء وأغيار على حد سواء، فما بالك أن تفرط فيه لهذا الاعتبار أو ذاك، أو تحت هذا الضغط أو ذاك.
التعليقات (0)