انطلق صوت من القاع بعد انتهاء التصويت في المرحلة النهائية على من يترأس اليونيسكو، وكانت المنافسة ما بين مرشحة فرنسا ومرشح قطر، يقول هذا الصوت: "تحيا فرنسا وتسقط قطر"، لم يكن ذلك من أي شخص، ولكنه جاء على لسان أحد الأفراد المحسوبين على البعثة المصرية لليونسكو، أيا كانت صفة هذا الشخص، وأيا كانت قيمته ومركزه، لكنه انطلق ليعبر عن دخيلة نظام انقلابي كان له أحد المرشحات لهذا المنصب، والتي جاءت ثالثة بعد المرشحة الفرنسية والمرشح القطري.
المشكلة في الحقيقة كان في هذا الصياح الذي قام به وأحدث حالة ما بين الذهول والهجوم من كثير من الحاضرين، ما الذي يدفعه ليصرخ بذلك؟ إن هتافه لم يأت بسيرة لمصر، لكنه في الحقيقة خرج من هذا الشخص في إطار المكايدة السياسية، خروجا على كل القواعد والأعراف الدبلوماسية، كما قلنا أيا كانت صفة هذا الشخص ووضعه.
ذكرني ذلك بقصة الاحتفال من جانب آخر وزراء ثقافة في عصر مبارك الذي قرر أن ينصب احتفالا بالحملة الفرنسية، وكان ذلك مثار جدل كبير بين أهل مصر ومثقفيها في ذلك الوقت، وبدا الأمر تفكيرا شاذا يعبر عن كيف يحتفل جهاز رسمي بتاريخ يعبر عن احتلال مصر وعن حملة فرنسية جاءت تجتاح البلاد والعباد، ولكن وزير الثقافة رأى أن الاحتفال بفرنسا وبالحملة أمر يستحق المغامرة ففرنسا بحملتها علامة تنوير وقد كان ذلك من جملة ما يحمله هؤلاء من تزييف وتزوير، تلك المقامرة إنما تعبر عن حالات الانبطاح والتغريب حتى أنه قد لا يقبل من هم من بني جنسه ويفضل عليهم من كان غربيا أو متغربا وردت عليه أستاذة مرموقة من الذين يدرسون الأدب الفرنسي آن ذاك بل وألفت كتبا عن الحملة الفرنسية وتلك الكوارث التي سببتها على مصر وعلى مسارها الثقافي والتاريخي، ولكنها حالة مستعصية حينما يؤمن البعض بأن الغريب من الغرب أفضل بكثير من العرب، وكأن هذه النقطة أصابتنا في حقيقة الأمر بنقطة ومرض عضال، "نقطة غين الغرب و"عين العرب".
ومن المؤسف حقا أن تكون هذه الأمور واقعة في دائرة المكايدة السياسية يتصاغر فيها الكبير ويهدر مكانته الجغرافية والتاريخية بأفعال هي أقرب ما تكون إلى المراهقة السياسية التي تعبر عن انحدار دبلوماسي لا يليق مطلقا بمدرسة يمكن أن تعبر عن مؤسسة وطنية، والشيء بالشيء يذكر، فإن هتاف هذا الرجل الذي تنصلت منه بعد ذلك الخارجية المصرية، رغم أنه لا يعقل أن يوجد شخص لا صفة له في هذا المكان وهذا المقام، إن ما قاله هذا الشخص صياحا عبرت عنه مصادر رسمية بلغة الانتقام والتشفي والمكايدة، برغبتها بل وعملها الحثيث في الدفع بالمرشحة الفرنسية إلى سدة اليونيسكو والعمل من كل طريق أن لا يصل المرشح القطري إلى سدة الرئاسة في تلك المؤسسة.
وبدا الإعلام المصري يقوم بأدواره المعتادة يسفه من يشاء ويضخم من يشاء ويتحدث عن أن مصر أحق بهذا المنصب مصر الحضارة وغير ذلك من كلمات محفوظة ومكررة وقد ينسى هؤلاء أو يتناسون ويتعمدون الإغفال أن وضع مصر الثقافي صار في الدرك الأسفل وأن وضعها التعليمي بات في ذيل القائمة وأن مصر عليها أن لا تتغنى بماض تليد، وقد تصدر حكمها هؤلاء الجهلة الموصوفون بتأخر دراسي والحاصلون على خمسين في المائة وبات هؤلاء يرون أنهم أحق بالسلطة والسلطان وأنهم أصحاب الصولجان والطغيان، وكأن بطغيانهم واغتصابهم كل سلطة يريدون أن يصلوا إلى منصب رفيع بكل أنواع البلطجة ومن غرائب هذا الزمن أن تخرج وزارة الخارجية ممثلة في رأسها أن انتخابات اليونسكو كانت "ملحمة".
أي ملحمة تلك الذي يتحدث عنها المسؤول عن الخارجية المصرية وأي أداء هذا الذي تدنى وشكل هذا الهتاف أسوأ غلاف تنتهي به هذه "الملحمة المزعومة" بالقول بحياة فرنسا بلغة ركيكة خاطئة وسقوط قطر بصوت عال جهوري، إنها في الحقيقة مزيج ما بين المكايدة والبلطجة السياسية والذي لم يتعرف هؤلاء على حقيقة انتخابات حقيقية، فإن هؤلاء اغتصبوا السلطة بانقلاب لا يمكنهم أن يخوضوا انتخابات حقيقية هم اعتادوا على تزوير الانتخابات وعلى كل أمر يتعلق باغتصاب السلطة من كل طريق ومن هنا عاد هؤلاء ينادون بأن فرنسا أفضل لهم في قيادة اليونسكو من قطر العربية هكذا كان هذا السقوط المدوي الذي يعبر عن انحدار سياسي بامتياز.
ولكن المشهد من حسن الحظ لم يغلق عليه الستار بهذا الهتاف المشين رغم تنصل الخارجية منه ففي حقيقة الأمر أن ذلك كما قلت لم يكن إلا أسوء غلاف ممثلا في تدني هذا الهتاف، لجملة من التصريحات سبقت ذلك من رسميين ومن دبلوماسية مصرية، أقول أن المشهد لم يغلق عليه الستار باعتبار ذلك ستكون أسوء نهاية، ولكن الممثل القطري في اليونسكو أدرك خطورة الموقف فأصدر كلاما مهما لينسدل من بعده الستار فقد ذكّر ذلك المصريّ ما هي فرنسا في تاريخ العرب؟! وذكر مصر بالتحية، ولم ينس بلده قطر بأن تحيا، وبحس عروبي أكد يحيا العرب من غير تلك النقطة التي دائما يستحضرها هؤلاء المنبطحون والمنسحقون تحت أقدام الغرب.
نقول ذلك بمناسبة أن الصغير قد يرتقي ويكون كبيرا فيصنع المكانة لبلاده وأن الكبير قد ينحدر ويتصاغر فيصنع النكبة لبلاده، بين صناعة المكانة وصناعة النكبات قول راجح وعقل راشد، فأين مثل هؤلاء من دبلوماسية الانقلاب الذين لا يعرفون إلا لغة الاغتصاب والبلطجة والقوة ولكنهم في الوقت ذاته ينسحقون انسحاقا أمام الغرب والكيان الصهيوني، أنهم في حقيقة الأمر يحتفلون بمحتليهم ويعادون كل قريب منهم، ويفجرون في الخصومة من مواقف عابرة، هكذا رأينا هؤلاء الذين أهدروا مكانة مصر وأهدروا مقالة "جمال حمدان" حينما قال: أن مصر موقع وليست موضع، للأسف الشديد أن "هتيفة الانقلاب" الذين يمارسون البلطجة باسم الدبلوماسية المصرية، هم من أهدروا مكانة مصر موقعا ومقاما.