كتاب عربي 21

شعوب تافهة ونخب نابهة

شريف أيمن
1300x600
1300x600
هذا التوصيف لا يحمل وِزرَه كاتبُه، إذ هو ناقل لما يتم تداوله بين أوساط بعض المنشغلين بالسياسة على تباعد الاختلاف الثقافي بينهم في مصر، ولكن ربما تختلف توصيفات الشعب وتتراوح بين التفاهة والعبيد، وبين الرجعية والتخلف، كلٌّ بحسب ثقافته ورغبته في رؤية الشعب على وفق ثقافته هو، ولكن -ولله الحمد- تبقى حركة المجموع في وقت الجد أكثر رصانة وتقدما من شاتميهم.

ما يستدعي هذا الحديثُ النقاشَ الذي جرى حول "مفهوم الحريات" على خلفية الحق في إعلان الميول الجنسية، وأيضا النقاش حول الفرحة العارمة لعموم المصريين عقب مباراة كرة القدم التي ترتّب عليها إعلان تأهل المنتخب المصري لكأس العالم، وقَصَفَ كلُّ طرف -في خصومته مع الأفكار العامة للمجتمع- بمدفعيته الثقيلة دون تلطّف أو محاولة تفهّم لسلوكيات الأغلب الأعم من المصريين، مما يؤكد في كل لحظة منذ نجاح يناير أن أغلب السياسيين بقواعدهم الثقافية أو التنظيمية لديهم استعلاء تنظيري على المجتمع، رغم أن وظيفة السياسي هي دعوة الناس لأفكاره، لا ذمهم لمجرد مخالفتهم في قضايا ليست ذات أولوية في الاهتمام بالشأن العام الذي لا يخفى على "ساسته"، وهذا الاستعلاء كان موجودا لدى النخبة الحاكمة قبل ثورة يناير، ثم بدا في الضفة المقابلة لنظام الحكم السابق منذ أول محطة عقب يناير، أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فخرجت دعوات للمطالبة بجعل أصوات الأميين بنصف صوت، باعتبار أن الشارع جاهل ولا يدرك مصلحته كنخبته المثقفة، وهذا الجهل لن يؤدي إلى شيء في الحقيقة سوى أنه كان سينتخب مخالفيهم من الإسلاميين وهو ما كان، لذا فضّل "أغلب" أبناء هذا التجمع أن يدعوا مؤسسة القوة للتدخل، وهو ما كان أيضا.

ثم ما لبثت القواعد التابعة لجهة الحكم منتصف 2012 تستدعي خطابا حادا ضد الشارع في ظل تزايد الخطاب الإعلامي المفتعل ضدهم، لكن اللحظة الكاشفة يوم أن تقرر أن هناك "أحرارا وعبيدا" في تقسيمات المجتمع، وأمثالهم لا يستحقون أن يقوم "الأطهار الأحرار" بالتضحية لأجلهم، فلْيحمل الشارع مطالبه بنفسه.

هذا الخطاب الاستعلائي أُنتج في صورته الأولى من ممارسة جماعة الحكم التي استبدت بكل مقادير الدولة منذ منتصف 1952، ولم تسمح بوجود أي تشكيل أهلي إلا في ظل الدولة أو قامت بإنشائه ابتداء، فكانت الرسالة أن هناك "أبا للدولة" مما استتبعه من وجود "عيال له"، وبلغ هذا الخطاب مداه في الآونة الحالية بكلمة "من لا يعجبه نظام الحكم فلْيترك البلد"، وتطرّف الخطاب من إحدى بنات رؤساء دولة يوليو التي قالت في معرض النقد لأبيها "من لا يعجبه أبي فليترك مصر" وأصبحت الأوطان عند الحكام وجماعتهم وأبنائهم تتشكّل ذهنيا وواقعيا في شخوصهم.

مثلُ تلك النماذج ولكن مع اختلاف في التفاصيل، ما قاله الدكتور ميلاد حنا من قبل بأنه إذا حكم الإخوان البلد فسوف يتركها، وكأن الانتماء مسألة مرتبطة بنظام الحكم لا بوجود الوطن، ولا يختلف هذا الخطاب كثيرا مع كل ما تم سوقه في هذه المسألة.

إذا كان ذلك حال من تفترض فيهم الثقافة المؤهلة لنيل "رتبة النخبوية"، فما هو حال الشارع المتهم بالتردي الثقافي والحضاري؟

نحن لدينا مجتمع خرج في ثورة شعبية للإطاحة بنظام حكم فاسد، وأدّى دوره المنوط به وقت استدعاء اختياره الشعبي في خمسة استحقاقات انتخابية بدءا من تعديلات الدستور مرورا بانتخابات مجلسي الشعب والشورى وانتخابات الرئاسة في 2012 وانتهاء بالاستفتاء على الدستور في نفس العام، وشارك المجتمع بكثافة كبيرة في أربعة استحقاقات منهم ليوصل رسالته  للسياسيين -رغم وقاحتهم-: أننا سنؤدي دورنا ولكن قوموا بتأدية دوركم فقط، فكان الجواب أن طلب فريق منهم من مؤسسة القوة بالبلد أن تطيح بالاختيار الشعبي، وللمفارقة جاؤوا بمن يقول لهم أن الرئيس مسؤول عن كل شيء بالدولة حتى دينها، ويقوم باستخدام الدين في كل شيء لتبرير ممارساته رغم رفضهم "المعلن" لمن قبله لذات السبب، وقام الآخرون بتحميل الشارع سبب الارتداد عن الثورة ونسوا أن ماجرى كانلعدم قدرتهم إدارة توازنات القوة بالمجتمع، وأنهم خُدعوا فيمن أزاحهم عن السلطة وقبلوا بأن يأتي رجل من مكاتب المؤسسة لا وحداتها العاملة التي قد تبقي في المرء بعض الشرف، ثم هذا الذي جاء بترسانته نسي أن دعما شعبيا ذلل له مراده فيخاطب الشارع مكفهر الوجه متوعدا، بينما يحني رأسه وتنكسر عينه أمام حماته وداعميه.

نحن أمام قطاعات واسعة من النخبة السياسية والحاكمة لا ترى الوطن موطن سكن ومستحق للانتماء إلا إذا وافق مرادهم وقناعتهم الفكرية والسياسية، وأمام شارع لا يريد شيئا سوى أن يرى أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسة مناسبة له، ولم يتأخر الشارع في إثبات ذلك سواء على مستوى التأييد أو المعارضة لأي طرف وجد في طرحه منطقا، فخرجوا بالملايين أمام الصناديق، وخرجوا بملايين أخرى بغية تصحيح المسار، فلما انحرف توجهت قبلة الملايين كذلك ضد رفض العدوان على الأنفس وتوريط مؤسسته الدفاعية في الشارع.

خرج الناس في كل لحظة من تلك اللحظات ليؤكدوا -بمجموعهم لا كل أفرادهم- أنهم يعرفون وِجْهة المصلحة، ويعرفون من سيدافع عن حقوقهم، ووقفت أطراف منهم تدعم العدوان والبطش كأي تجمع بشري فيه من ينجذب إلى الزيف، لكن الأغلب الأعم إما رفَضَه ابتداء أو تراجع عنه لاحقا، لكن صكوك التوبة التي يمنحها الساسة رفضوا إعطاءها لمن تراجع بسبب فقْد قوت يومه ولم يتراجع بسبب إسالة الدم، ولم يدركوا أن الملايين التي خرجت عقب الفض الوحشي للميادين كانت ثورة للدم لا لمجرد الدعوة "للشرعية"، وآية ذلك أنهم لم يخرجوا بذات الكثافة عقب بيان 3 يوليو/تموز 2013، ولم يدركوا أن من تبصّر لفقد القوت كمن ألجأه الصيام لسمو النفس بعدما أُثقلت بزيف الدنيا، فهناك صائم عن زيفها بفطرته وهناك من يجافي الزيف بالاضطرار لا بمحض إرادته.

إذا كان المطلوب وطن يقبل أفكار مجموعة بعينها ففيم التنوع والدعوة لقبوله؟ ولماذا لا تصير الحكومات قبلية أو عرقية أو دينية فقط؟ فربما كان هذا الحل مناسبا للجميع، وربما ندعوا بعد ذلك لدول على أساس فكري فقط وتستقل كل مجموعة فكرية بوطنها حتى لو كان هذا الوطن مقهى في وسط البلد، أو مركزا إسلاميا في زاوية، ولْيرفع كل منهم عَلَمه ودعوته ولا يسمح لغيره بالاقتراب منه إلا بشروطه.

هذا الشارع -بمجموعه- هو الذي سيرفض تجاوز البعض لحدوده الثقافية، وهو الذي سيرفض الظلم لكنه سيفرح لانتصار رياضي حتى لو رآه البعض تافها، وهو الذي سيبحث عن قوت يومه ويكد لأجلهباستكانة موقوتة،إلى أن يكون هناك من الساسة من يدعوه لأخذ حقه والانتصاف ممن أفقره، ساعتها سيعيد كرّة التأديب لكل هؤلاء.

0
التعليقات (0)