ما طلبه الجنرال السيسي آنذاك من رئيس تحرير المصري اليوم في واحد من الحوارات حينما كان وزيرا للدفاع لهي مسألة كاشفة في الصياغة الاستبدادية، فقد طالبه بالتنسيق مع المثقفين، لقيادة حملة لتحصين منصبه كوزير للدفاع في حال ترشحه للرئاسة ولم ينجح، إذ يعود للمنصب من دون أدنى مشكلة، "المفروض قيادة حملة مع المثقفين (أي بالتنسيق معهم)، لوضع فقرة في الدستور تحصّن الفريق السيسي كوزير للدفاع، وتسمح له باستئناف دوره حتى وإن لم يدخل الرئاسة"، وهو أمر بالغ الدلالة فيما يتعلّق برؤية الرجل لمنصب وزير الدفاع كموقع محصّن فعليًا ينطوي الابتعاد عنه على مخاطرة كبيرة، يجب حسابها ذهابًا وإيابًا، كما ينطوي هذا التصريح على دلالة مهمّة تتعلّق بقلق الجنرال من الشعب، لدرجة تجعله يفكر ويطرح فكرة التلاعب بكل الأعراف والتقاليد الإجرائية المستقرة في أيّ عملية انتخابية، في وقت يروج فيه لنفسه أنّه "حامي ثورة 30 حزيران/ يونيو"، التي بلغ عدد المشاركين فيها - كما يدّعي - ثلاثين مليونًا من البشر. يتحدث عن قيمة الشعب ثم ينسخها من غير عنت شديد، فهي مقولة تستدعى عند اللزوم؛ لزوم اللقطة كما أوردنا من قبل. ومن ثم فهو مذعور من أي احتجاجات قادمة يهدد الشعب أحيانا تهديدا مبطنا وأحايين أخرى بشكل ظاهر، فهو يستطيع أن "يفرد الجيش في ست ساعات"، في محاولة لتغذية المعاني التي تدور في معظمها أنه لا طائل من ورائها.
يأتي بعد ذلك مفهوم الثورة في خطاب العسكر ليعبّر عن إدراك شديد الخطورة، ويصاحب ذلك سياقات خطاب تحاول من قريب ومن بعيد، التخويف من حال الثورة، وتشويه ثورة 25 يناير، والحديث عن آثارها السلبية، وكيف أنها عرضت الدولة لحالة من التفكك في خضمّ أحداث جسام، وهدّدت المجتمع.
واستفحل هذا الخطاب حتى صار كلُّ من ارتبط بالثورة موضع تشويه، بل وموضع اتّهام بالخيانة. وغايةُ أمره أن يتراوح الخطاب بين نفاق الثورة الأصلية وإدخال عليها ما ليس منها، بل ومطاردة ثورة يناير بانقلاب 3 تموز/ يوليو متدثرًا بأحداث ومشاهد الحشد الشعبي في 30 حزيران/ يونيو، ممارسًا كل ألعاب خلط الأوراق مشيعًا ومبيحًا لخطاب يمتهن ثورة يناير، ويمجّد دور الجيش في ثورة مزعومة في الثلاثين من حزيران/ يونيو ومغطيًا انقلابه في الثالث من تموز/ يوليو ومستندًا في أعمال القتل الجماعية والمجازر البشرية التي قام بها إلى حالة تفويضية.
والهدف الواضح كان وأْد الثورة وأهدافها، واستهداف رموزها حتى أصبحت الثورة مدانة ومهانة وقطعت الطريق على أي حالة ثورية مستأنفة. وبرّرت السلطة في هذا السياق كلّ عمل يؤدّي إلى تكميم الأفواه ومنع الاحتجاج والتظاهر وتجريم كلّ أعمال يمكن أن تسهم في حالة ثوريّة جديدة. مشيرا الى الثورة وحلم الثورة لدى الشباب من أنه "لن يسمح بذلك مرة أخرى" غافلا أو متعمدا فالثورة ليست بسماحه، وحركة الشعوب حينما تحين ساعتها ليست بإذنه، ولكنهم يريدون أن يطمسوا لحظة يناير التي تشكل الهاجس وربما الخطر الأكبر في خلدهم وروعهم.
أمّا عن مفهوم الديمقراطية وعلاقته بالشعب فهو من المفاهيم المستَخَف بها المُحتال عليها في خطاب العسكر، فإنّه قد وقع بين حالة إنكار لإمكانية إقامة ديمقراطية في ظل هذه الأوضاع، والقول الموروث بعدم تأهُّل الشعب لذلك ضمن ترويج مقولات بعينها، وتسويف أيّ تطبيق يتعلّق بحقوق الإنسان في مصر.
صخبوا بأنّ شعبها لم يتأهّل بعد للديمقراطية، وعلى الرغم من ذلك، فإن المستبدين لم يلجؤوا إلى هذا الشعب في الاستحقاقات الصورية، كي يتدثر به في استفتاءات دستورية وانتخابات رئاسية هزلية، وانتخابات برلمانية، ضمن خطة تصنيع للبرلمان على طريقة مخابراتية، من دون أن يخفوا ذلك، ولكنهم يعبّرون عنه بأشكال مباشرة وغير مباشرة، ويتحدّثون بعد ذلك عن انتقال أصوات برلمانيّة، إذا ما أرادت أن تنتقد، ويتحدثون عن خطورة حساب البرلمان في أُمور تتعلق بالجيش يصفونها بأنّها سرية لأسباب أمنيّة، فليس من حق البرلمان أن يناقش ميزانية العسكر، فهي ميزانية الرقم الواحد، قابلة -فحسب- للإقرار من غير معقّب، فإنّ أرادوا التشريع لمكاسب آنية تخصُّهم خرجت التشريعات وصدرت القرارات ومرّ كلُّ شيء من غير حساب أو سؤال، وصار هذا الأمر لا يعني بأيّ حال، الدخول في مساحات الديمقراطية؛ لأنّ العسكر بمؤسساتهم لا تمس مصالحهم ولا يمكن أنْ يُعقّب عليها أحد، وحينما فرضوا موارد جديدة تُجبى من خلال مؤسساتهم وتحفظ بعض منهم عليها، قالوا: إنّ القوات المسلحة هي من تقوم بالصرف عليكم منذ ثورة يناير. هكذا تصاغ القضية، ويصاغ الخطاب حول الديمقراطية، فالجيش خارج دائرة الديمقراطية وما يفعله هو الصواب والأمن عينه، بلا حساب أو مساءلة.
مقولة "فيه برلمان قادم وممكن يطلب استجوابات" عبارة وردت على لسان السيسي، خلال اجتماعه بقادة الجيش وضباطه من الصفّين: الأوّل والثاني، جاءت هذه العبارة في سياق عرض رؤية السيسي للثورة والمستقبل، ومخاطر الوضع الجديد على الجيش: "فيه برلمان قادم وممكن يقدم طلبات استجوابات، ماذا سنفعل؟ لابد أن نكون مستعدين لمواجهة هذه المتغيرات بطريقةلا تؤثر علينا سلبًا". وهذه العبارة تشير إلى رؤية العسكريين للثورة كتهديد، وللديمقراطية كتحدّ، كما تشير إلى رؤيتهم لأنفسهم ككيان لا يجب أن يخضع لأيّ نوع من الرقابة، بما فيها الرقابة البرلمانيّة الديمقراطيّة.
وفق فكرة الأذرع الإعلامية التي أشار إليها السيسي في أحد خطاباته للعسكريين والتي يعول عليها العسكر في عمليات غسيل المخ الجماعي واللغة التعبوية، حينما كان وزيرًا للدفاع، شكّلا لإعلام منطقة غاية في الأهمية مبكّرًا، حول إحدى أهم السياسات المقصودة التي يقوم بها جنرالات المؤسسة العسكرية في الإسناد الإعلامي فيما سُمّي بصناعة الأذرع الإعلامية.
ويشير إلى ذلك حديث التسريبات برعاية مدير مكتب وزير الدفاع في إدارة تلك الأذرع، على نحو مباشر وغير مباشر. وهو ما يشير، ومن خلال قرائن عدة، إلى إدارة العناوين الرئيسة في الصحف، والموضوعات التي تتحدّث عنها، وكذلك البرامج الحوارية في الفضائيات العامّة والخاصّة.
كل ذلك ضمن تحريك جوقة إعلاميّة متكاملة حول موضوعات بعينها، تسهم في صناعة الرأي العام، سواء أكان بغسيل المخ الجماعي أم التلاعب بالعقول أم زرع الأفكار وغرس كل ما يتعلّق ببناء المواقف العامة وتشكيلات الرأي العام، عند تلك الفئة التي سمّاها الكثيرون "حزب الكنبة"، ممّن أدمن مشاهدة هذه البرامج، وهي كتلة لا يستهان بها في عمليات التأييد والتدعيم والترويج، كل ذلك يحمل تصورات دونية للشعوب واستخفافا بها، إنه إعلام اللقطة والتعبئة والتمرير والتبرير والتزييف والتزوير والتغرير.
ومن هنا، فإن صنّاع الأسطورة أصبحوا يتصرّفون في الذاكرة كيفما شاؤوا ويحتكرونها، ويتصرّفون فيها مستبعدين كل من يريد أن يستبعدهم. وإن انتقد أحد من الجيش أو القوات المسلحة فعلهم أو سياساتهم، استبعد من شرف المجد؛ لأنّه يعتدي على "جيش أكتوبر". وصار ذلك من أهم المداخل لمصادرة ما يمكن تسميته بشباب الثورة واستدعاء المشكلة الجيلية، للحديث عن جيل أكتوبر وجيل الثورة، وكأن جيل الثورة لا يقدّر أكتوبر أو النصر الذي ارتبط به، وهو على أفضل الفروض يتوجّه بخطاب إلى جيل بعينه، مستبعدًا الجيل الآخر، جيل الثورة.
وصارت المواجهة تقوم على قاعدة من الانفعال والافتعال والإغفال، حتى يمكن استخدام هذا الجيل لمواجهة الجيل الجديد في الثورة، وكأنّه يثور على أكتوبر. وقد تحوّل الأمر، للأسف الشديد ضمن هذا الخطاب، إلى المواجهة بين أكتوبر وذكراها والثورة في أرضية الزيف، قراءة أُسطورية للماضي، فعل استبداديّ، استدعاء انتقائيّ، ذاكرة زائفة، دعم الاستبداد، مصادرة المستقبل، افتعال المواجهة.بين تلك التصورات للناس والشعوب وأفعالها والعسكر ومكانتهم من ناحية أخرى تقع عملية الاستخفاف من السيسي وجوقته ضمن إدراكاته للشعب والعسكر والثورة والديمقراطية والدور الإعلامي المٌستخِف، وهو ما سنتناوله في المقال القادم.