تم إطلاق لقب «رجل أوروبا المريض» على الإمبراطورية العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر. ولم يكن ذلك اللقب يشير إلى أفول سلطة «الباب العالي» فحسب، بل أيضا إلى تهديدها للأمن الأوروبي من خلال تفاقم الصراعات القومية في إطارها من جهة، ومن الجهة الأخرى وبالأخص، تفاقم الصراعات بين شتى القوى الأوروبية للسيطرة على المناطق التي أخذت تفلت من سيطرة الإمبراطورية، من مصر حتى البلقان، مرورا بالقرم.
والحقيقة أننا نواجه اليوم وضعا أخطر من ذلك بكثير؛ إذ إن العالم بأسره، وليس أي قارة أو منطقة على انفراد، بات يواجه مشكلة بالغة الخطورة إزاء أعراض الأفول التي أخذت تتكاثر لدى أعظم قوة عالمية وأقوى وأغنى إمبراطورية شهدها التاريخ، ألا وهي الإمبراطورية الأمريكية.
والحال أن تلك القوة العظمى بات يرأسها منذ بداية هذا العام رجلٌ هو ذاته رجل مريض، بيد أن مرضه ليس بالمعنى المجازي الذي ينطبق على دولته، بل بالمعنى الطبّي، حيث تنتمي حالته إلى صنف من أصناف الأمراض النفسية المعروفة. فدونالد ترامب رجل يتصف بكل وضوح بإفراط في حب الذات النرجسي الذكوري، بما يؤدي إلى الاقتناع بالتفوق على الجميع، مع سوء تقدير لحدود القدرات الذاتية والموضوعية.
وإذا كان مثل ذلك المرض محدود الأهمية عندما يتملّك أحد الأثرياء العاملين في مجال المضاربة العقارية، حيث يقود المرض إلى أفشال يستطيع المريض التخلّص منها بإشهار الإفلاس (وقد أشهر ترامب إفلاس مشاريعه أكثر من مرة في مساره كرجل أعمال)، فإن الأمر أخطر بما لا يُقاس عندما يكون المريض واقفا على رأس أعظم إمبراطورية عالمية وقادرا على إقرار استخدام قوتها النووية التي تكفي لإفناء البشرية جمعاء.
وما يزيد من خطورة الوضع أن الرئيس المريض دخل في صدام نرجسيات مع رئيس آخر يشاطره المرض ذاته ويملك سلاحا نوويا، ألا وهو رئيس كوريا الشمالية. فغدت منطقة شرقي آسيا واقفة على كفّ عفريت تخشى من أن يؤدّي صراع المريضين النفسيين إلى صدام نووي قد يتسبب بكارثة تكون أبشع بعد من تلك التي تسبب بها إلقاء الولايات المتحدة لقنبلة ذرّية على مدينة هيروشيما اليابانية في عام 1945. ولا عجب بالتالي من أن يراقب العالم بأسره تطور الأحداث بقلق شديد، لا سيما أنها تنذر بأن تتطور إلى مواجهة عالمية من خلال كون الصين طرفا في المعادلة.
أما الطريقة التي تعامل بها ترامب مع المشكلة الكورية فتدلّ على درجة عليا من الغباء السياسي إذ اعتقد أنه يستطيع بواسطة التهديد أن يفرض مشيئته على نرجسي ذكوري مثله، فما كان بالأخير سوى أن واجه الوعيد بالتصعيد بما شكّل إحراجا للأول الذي أطلق التهديد. وقد تدخّلت المؤسسة السياسية الأمريكية، ولا سيما عسكريوها، لتلجم رئيسها قبل أن تسيء الأمور أكثر مما ساءت.
وينذر الفشل الذريع الذي مُني به ترامب حتى الآن في الملفّ الكوري بفشل ذريع مماثل في إدارته للملف الإيراني الذي كان قد وضعه بين أولويات حملته الرئاسية، واعدا بإلغاء الاتفاق النووي الذي عقده سلفه باراك أوباما مع طهران. وقد بدأ الرئيس الأمريكي الجديد معالجة الملف الإيراني بالتزامن مع معالجته للملف الكوري وبدرجة مماثلة من العنجهية المفتقرة إلى أبسط درجات الحنكة السياسية.
فبعد أن تسببت زيارته للمملكة السعودية بأزمة خليجية حادة ومواجهة باتت تبدو وكأنها مستعصية بين حلفاء الولايات المتحدة المحليين، تأكد أن ضربته العسكرية اليتيمة للنظام السوري بسبب استعمال هذا الأخير للسلاح الكيماوي لم تكن سوى محاولة بائسة لإقناع العالم بأنه، أي ترامب، أكثر «ذكورية» من سلفه. وقد أفصحت عن تخبط كبير في السياسة الأمريكية إزاء سوريا يفاقمه التخبط الأكبر في سياسة واشنطن إزاء روسيا، الدولة المحورية في المجالين السوري والإيراني. وإن لم يدخل في معادلة الملف الإيراني مريض نفسي بارز آخر، لو استثنينا حالة تنظيم «الدولة» (داعش) الجنونية، يكفي أن ثمة جناحا من النظام الإيراني تحرّكه العنجهية وأطماع توسّعية بالغة الخطورة، وأن أحد أطراف الملف الرئيسيين أكثر دول العالم عدوانية، ألا وهي الدولة الصهيونية التي يحكمها أقصى اليمين الصهيوني، والتي تحوز هي أيضا على السلاح النووي.
أما الخلاصة المرّة من كل ذلك، فهي أن منطقتنا العربية مهدَّدة بأوخم العواقب، وهي تجتاز منذ سنوات محنة تاريخية تضاهي أخطر محن تاريخها. ويل لأمة…