كنت في لندن الشهر الماضي عندما جاءني اتصال هاتفي من رقم تونسي. اتضح أنه صديق جزائري يقيم في دولة خليجية سافر وعائلته إلى تونس لقضاء إجازة الصيف. كان سفراً مخططا له ضم عائلة هذا الصديق وعائلة زوجته القادمتين من الجزائر، فالتأم في تونس شمل ثلاث عائلات قضت أياما ممتعة، وفق توصيفه.
ذكّرتني الحالة بعراقيين، بسبب نظام صدام حسين ولاحقا الحرب الأهلية، طالما سافروا من مختلف العواصم الغربية للقاء أفراد عائلاتهم في عمّان. مع فرق ألاَّ شيء يمنع صديقي ـ وآخرين ـ من قضاء إجازته السنوية في الجزائر إلا خوفه من أن تتحول أيامه هناك إلى نكد وندم.
أسهب صديقي في وصف المتعة وراحة البال في تونس، مع حسرة، بطبيعة الحال، على عجز الجزائر عن توفير أجواء مشابهة تجلب أبناءها قبل الأجانب.
قد يكون في الأمر مبالغة أو شيء من الإفراط في البحث عن الكمال، لكن لا لوم على عائلة تبحث عن حقها في قضاء إجازة مريحة غير متاحة بسهولة في الجزائر. في عائلتي القريبة مراهقون خاضوا هم أيضا تجربة السياحة الصيفية في تونس. أجمعوا كلهم على أنها تمت بلا معاناة وبكلفة مقبولة.
نزلوا في فنادق من فئة الأربع وخمس نجوم واستفادوا من كل خدماتها التي، في الجزائر، تعتبر من صنوف الحلم، فعادوا إلى بلادهم مصابين بالذهول.
هناك ظاهرة تستوقف القادم من بعيد في المجتمع الجزائري: كبار السن، نساء ورجال، يشتركون في حلم أداء مناسك العمرة، وغيرهم من الأقل سنًّا وتديُّنا يحلمون بإجازة صيفية في تونس.
تونس هي بالأحرى خيار الجزائريين غير الميسورين (الميسورون يفضّلون أوروبا وتركيا وماليزيا وتايلند وغيرها) لأنها أفضل المتاح.. هي الأقرب مسافة، الدخول إليها مبسط، والتعامل فيها سهل بحكم اللغة المشتركة والعادات والعقليات المتقاربة. الجزائري قد يشعر بغربة في أي مكان إلا في تونس.
كما أن بقاء الحدود البرية بين الجزائر والمغرب مغلقة فسَحَ المجال أمام تونس استغلته الحكومة التونسية مستفيدة من تأخر حكومة المملكة في الاستثمار في جوع الجزائريين السياحي.
الأرقام الرسمية المتاحة في تونس تفيد أن 1.8 مليون جزائري زاروا تونس العام الماضي وأمضوا 17 مليون ليلة سياحية، أي ما يقارب عشر ليال قضاها الفرد الواحد. وبالنظر إلى كون تونس هي وجهة الجزائريين غير الميسورين، تبدو عشر ليال سياحية مدة معقولة اقتصاديا ونفسيا، لأنها توشك على إشباع حاجة السائح من دون أن تبدأ في نخر موازنته.
تونس استثمرت جيدا في ما يجوز تسميته بالظاهرة الجزائرية، وفق خطة تنبع من سياسة واضحة تبدأ بإغراء الجزائري في شوارع مدينته من خلال إعلانات دعائية لافتة للانتباه. ويتواصل العمل باستقبال السائح الجزائري بالأحضان والهدايا في المعابر البرية (معبر ملولة في منطقة طبرقة وحده استقبل في 2016 نحو 650 ألف جزائري).
كما أنشأت في وزارة السياحة «إدارة الأسواق العربية». وبما أن مصر ولبنان والمغرب والأردن دول جاذبة للسياح وليست مصدِّرة، يبقى واضحا أن الهدف، عربيا، هو السائح الجزائري ثم الخليجي. لكن الجزائري أهم لأنه أسهل، فهو غير متطلب ولا يدقق كثيراً في الخدمات ونوعيتها (كونه قادما من العدم) وسهلُ المزاج عند مقارنته بالمزاج التونسي.
أين الجزائر من كل هذا؟ غائبة تماما. الشعب الفرنسي من أكثر الشعوب سفرا إلى الخارج، لكن فرنسا تجلب 50 مليون سائح أجنبي سنويا. وهو حال اسبانيا وإيطاليا ودول أخرى، لكنه ليس حال الجزائر.
أحيانا يتراكم لدى الفرد انطباع بأن الجزائر مرتاحة في انغلاقها وراضية بإخفاقها عن جلب سياح أجانب، بل عن إقناع أبنائها بقضاء إجازاتهم في بلادهم.
النزيف المستمر الذي تعيشه الجزائر، سياحيا على الأقل، تقع مسؤوليته على الحكومة أولا وعلى المجتمع ثانيا. لكن المشكلة تكمن في عمل الطرفين على توظيف هذا الواقع المر وتحويله من خيبة إلى نصر.
في الأوساط الرسمية هناك محاولات لتوظيف الإخفاق وتحويله إلى نجاح، من خلال تكريس الاعتقاد بأن السلطات حققت للمجتمع الجزائري رغد العيش ومكّنت حتى محدودي الدخل فيه من قضاء إجازاتهم في الخارج. وهو أمر غير متاح لعامة التونسيين والمغاربة والمصريين وغيرهم.
أما في الجهة المقابلة للسلطة، فلا يبدو أن هناك إدراكا لوجود مشكلة، إذ يكفي الفرد (والعائلة) أن يسافر خارج الحدود ليعزز مكانته الاجتماعية ويجد ما يباهي به أقرانه (العمرة لكبار السن وتونس للباقي).
المؤلم في الأمر ألاَّ أحد من الطرفين جاهز لنفض الغبار الذي يلفه ويقود إلى النزيف. فإذا افترضنا أن كل فرد من الـ1.8 مليون أنفق 100 دولار خلال إقامته، تكون المحصلة 180 مليون دولار.
أخطر من المشكلة ذاتها إنكارها ومحاولة توظيفها. في الجزائر تجاوزنا الإنكار ومحاولة التوظيف إلى التباهي بالإخفاق.
هنيئا لتونس ولا عزاء للجزائر. اللهم لا حسد للاثنتين.
(عن صحيفة القدس العربي اللندنية)
1
شارك
التعليقات (1)
عبد الرزاق الجملي.... تونس
الثلاثاء، 05-09-201705:56 م
يارب اجعل قلوب عشرين مليون جزائري تعفو الى تونس ويزورونها كل عام حتى تتجدد العلاقات وتتوثق اكثر واكثر بين الأشقاء وأبناء العمومة في طرفي الحدود..... اللهم اجعل المكسب المادي اخر همنا من وراء هذه الزيارات.... ببساطة شديدة لان المثال التونسي الجزائري في الدول العربية نادر جدا حتى تهرت وتاكلت العلاقات بين الاجوار العرب .... نريد لمثل هذه الحالات أن تتكاثر وتتواتر حتى ترتبط الشعوب ببعضها أكثر وأكثر