من النصوص التي نقشت في ذاكرتنا منذ الصغر قصة ذلك الأعرابي الذي استضاف في قريته شخصا قدم من المدينة، فأكرم وفادته. وفي يوم من الأيام توجه هذا الأعرابي إلى المدينة لقضاء بعض حوائجه.
وهناك التقى بصاحبه فحياه، لكن الرجل تجاهله، فقال: لعله لم يعرفني فذكره بما حصل بينهما من تعارف سابق، فاستمر الرجل في الإنكار، فقال في نفسه لعل بعض ملابسه قد أشكلت على الرجل وحالت دون التعرف عليه فأخذ في نزع بعضها، غير أن النتيجة لم تتغير. عندها التفت ساكن المدينة لذلك الأعرابي وأعلن له بدون لبس "والله لو خرجت من جلدك ما عرفتك". وللحادثة معان لن تنفد.
تذكرت هذا النص للجاحظ من كتاب "البخلاء" وأنا أتابع علاقة الشك والحذر المستمرة بين العلمانيين في تونس ومنافسيهم من الإسلاميين، وبالخصوص حركة النهضة.
آخر فصول هذه العلاقة الملغمة يجسدها عودة الجدل بين الطرفين حول مسألة الأوقاف. فخلال الأيام الأخيرة دعا رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي إلى الاستفادة من تجربة نظام الوقف في الغرب لدعم الجامعات والبحث العلمي في تونس.
هذه الدعوة التي تبدو عادية رأى فيها إعلاميون وسياسيون ومثقفون محاولة من الرجل للعودة إلى تمرير فكرة الأوقاف بعد أن تراجعت عنها حركة النهضة عندما كانت تقود حكومتي الترويكا، ولهذا الأمر قصة طويلة.
قبل خوض انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، أعدت هياكل الحركة برنامجا للحكم، وقد اتسم ذلك البرنامج بالسخاء والقفز على الواقع. ومن بين النقاط التي وردت في ذلك البرنامج إعادة نظام الأوقاف الذي سبق للرئيس بورقيبة أن قام بإلغائه مباشرة بعد الاستقلال.
كانت الحجة الأساسية لبورقيبة يومها هو الفساد الذي استشرى في هذا القطاع، وحتى يعطي للدولة الناشئة الصلاحيات الواسعة والمطلقة للتصرف في تلك الثروة الهائلة من عقارات وغيرها. وبذلك ارتبط حل الأحباس (جمع حبس) بالإصلاح الزراعي وتحرير الملكيات المجمدة وغير المستغلة بشكل جيد. كما ارتبط ذلك القرار بتحديث الدولة والاقتصاد، وإن كان من جهة أخرى قد اعتبر من بين الآليات التي تم اعتمادها لإضفاء القوة على دولة الاستقلال وإضعاف خصوم القيادة السياسية الجديدة.
عندما نشأت الحركة الإسلامية في مطلع السبعينات اعتبرت أن مشروع بورقيبة تغريبي المضمون، وأن تصفية الأوقاف ليس سوى جزء من إبعاد الإسلام عن مجال التدخل في تنظيم المجتمع. ولهذا بقيت الحركة تنتظر الظرف المناسب لإعادة الحياة إلى نظام الأوقاف. وقد يكون هذا السبب هو الذي دفع بخصوم النهضة إلى التصدي بقوة إلى هذه الفكرة اعتقادا منهم بأن ذلك لو حصل سيعطي قوة مالية وسياسية إضافية إلى الإسلاميين ويجعلهم أكثر نفوذا وهيمنة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما اعتبروا أن إثارة الموضوع من قبل الغنوشي في هذا التوقيت هو محاولة منه لمقايضة رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي الذي طالب من جهته بالمساواة في الإرث بين الذكور والإناث. أي هذه بتلك. وهي فرضية تستمد أهميتها من أجواء السوق السياسية أكثر من كونها تعكس أمرا مؤكدا.
كما أنها تحيل إلى الصعوبات الإضافية التي ترتبت عن دعوة السبسي وجعلت قواعد النهضة متحفزة ومتخوفة من أن يستمر ابتزاز حركتهم وقيادتها حتى تفقد شرعيتها ومصداقيتها أمام الجمهور المتدين داخل تونس وخارجها. لكن ذلك لم يمنع بعض المسؤولين النهضويين من التدخل لدى وسائل الإعلام لنفي وجود مشروع قانون للأوقاف تنوي الحركة عرضه على البرلمان.
لو يتم النظر إلى مسألة الأوقاف خارج التنازع الحزبي والأيديولوجي لتيقن الجميع بأن هذا النظام لو يسمح بتطبيقه وفق شروط صارمة فستكون له إيجابيات عديدة ولساعد كثيرا من المواطنين وفي مقدمتهم العاطلين وحاملي الشهادات العليا من الشباب، خاصة إذا حددت أهدافه بدقة، وأخضعت منظومته لآليات الشفافية والمحاسبة، وأشرفت عليه الدولة في مرحلة أولى إلى أن تتضح المسافة بين الأحزاب والمجتمع المدني.
ما هو الضرر الذي يمكن أن يترتب عن تبرع عدد من الأثرياء بجزء من أموالهم، وأن يتم تسخير ذلك خدمة لبعض المؤسسات التعليمية أو البحثية أو الاجتماعية، مع وضع كل الضمانات للحيلولة دون أن تخدم هذه الأوقاف تيارا معينا أو أيديولوجية محددة؟
لقد تعالت أصوات كثيرة ولا تزال تطالب بجعل مصالح البلاد فوق الحسابات الحزبية والأيديولوجية، لكن أصحاب هذه أصوات لم يجدوا في كثير من الأحيان من يستمع لهم ويلتزم بما يدعوهم إليه. لم تتقلص كثيرا أزمة الثقة بين الإسلاميين والعلمانيين رغم كونهم يتقاسمون الدولة ويحافظون معا على السلم الأهلي. فالضرورات الحزبية الناتجة عن موازين القوى والخطوط الحمراء الدولية لا تزال هي التي تضبط قواعد اللعبة وحدودها.