إن المقصود بنظرية المؤامرة هو عدم تفسير الأمور حسب المعطيات الواقعية والمنطقية المتوفرة أو المستنتجة، وتفسيرها على أنها من فعل شخص أو جهة منافسة أو معادية، بحيث يسيطر ذلك التفسير علي العقل، ويحصر تفكيره فيه، ويحمله معه طوال الوقت. أو هي الاعتقاد بأن هناك قوى شريرة خفية قوية تتحكم سرا بمجرى الأحداث وتاريخ العالم. أو الاعتقاد بأن حادثا أو موقفا كريها هو نتيجة خطة سرية وضعها أناس أقوياء.
شهدت السنوات الأخيرة اتساعا غير مسبوق لنطاق استخدام التفسير التآمري، بحيث تحول ما أصبح يعرف باسم نظرية المؤامرة إلى ظاهرة مسيطرة على الطريقة التي يتعامل بها التفكير العربي مع التطورات الجارية، إن موجة التفكير التآمري الحالية تتسم بطابع اكتساحي، إذ إنها بدأت تمس كل القضايا، حتى تلك التي تتسم بملامح أو توجد بشأنها معلومات محددة ووصلت أحيانا إلى درجة الهذيان. كما تتسم تلك الموجة بطابع وبائي، فهي تنتشر علي جميع المستويات دون تمييز على مستويات قادة الرأي من الصحفيين والإعلاميين وأساتذة الجامعات، إضافة إلي البيروقراطيين بفئاتهم المتعددة.
وصارت التفسيرات التآمرية تكتسب طابعا شعبيا تصعب مقاومته، إذ أنها أصبحت الأداة الأولى لتحليلات قطاعات الرأي العام المختلفة، بقدر من الثقة والتأثير النفسي الذي لا يتوافر لأية توجهات أخرى. كما تتسم تلك الموجة بالطابع المزمن، فلم تعد مجرد موجة مؤقتة ترتبط بالحروب أو التطورات الكبرى، بل غدت إطارا مستمرا ينسحب علي كل شيء بعمق يوحي بسمات هيكلية لن تتوقف ببساطة.
لقد بدأت تلك النظرية تتخذ أبعادا عملية، فلم تعد مجرد نمط تفكير، وإنما موجة حركة، فيما يتعلق بالتعامل مع مشكلات كالإرهاب أو الآخر، ينظر المرء إلى الأحداث الكبرى التي تقع من حوله فلا يجد تفسيرا لها إلا أن وراءها مجموعة من العوامل التي تتفاعل وتُحرِّكُ الأحداث بأشكال عجيبة وطُرُق مُعجزة تستعصي على الفهم والإدراك.
وبتحليل مثل هذه الرؤية، نجد في خلفيّتها أشخاصا يتحركون في الظلام كالأشباح، ونجد جهات خفيّة مجهولة تمسك بالخيوط وتحركها مباشرة من وراء السُتُرِ الكثيفة لتصل إلى غايات لا فكاك ولا مهرب منها وكأنها قدرٌ من الأقدار.
من هنا تأتي مصطلحاتٌ وتعابير من مثل "المخططات الجهنمية" وما إليها، لتختصر وتختزل المعاني السابقة وتُعبّر عنها في لفظ أو لفظين، بحيث يصبح من السهل استدعاءُ تلك المصطلحات من الذاكرة الثقافية واللغوية واستعمالها في أي وضع تنطبق عليه الرؤية السابقة، الأمر الذي لا يترك أي فرصة لمحاولة التفكير في الحدث الجديد بُغية تحليله بشكل منهجي وموضوعي.
نتيجة للاستبداد والقمع المتواصل الذي تعرض له الإنسان والمواطن في أوطاننا، يرى البعض أن هيمنة فكر المؤامرة إنما يعتبر أحد أهم تعبيرات ثقافة الخوف كتفكير وسلوك سياسي جمعي، والتي تتجاور وعناصر أخرى، منها عدم الإحساس بالأمان، وانعدام الثقة بالمؤسسات القائمة، والخوف من السلطة ورموزها، وسيطرة نموذج الخضوع والطاعة للأقوى، والاحتماء بالتفكير الغيبي، وعدم الثقة بالمستقبل في ظل ثقافة الخوف المعممة في المجتمع يكون لفكر ونظرية المؤامرة مكانا مرموقا، لقد ظلت نظرية المؤامرة تعطي بعض الناس الإغراءات الكافية لاعتمادها وممارستها، لمجرد أنها تدغدغ بعض المشاعر الخاصة فيهم، وتمنحهم الفرصة للتخلص من عبء التحليل والاستنباط، مع أنها في الواقع ضحك على أنفسهم واستخفاف بعقولهم، لأن "نظرية المؤامرة تريح من يتبناها من عناء البحث عن الأسباب واستقصاء الأفكار والمعلومات والتعقيدات التي تحيط بالقضية موضع الحديث ، ويصبح بذلك الحديث عن المؤامرة المشجب الذي تعلق عليه كل الأخطاء والتجاوزات وأوجه القصور والخلل في مجتمعاتنا، بالإضافة إلي طبيعة بنية العقل المنغلق أمام الديمقراطية والرافض لمبدأ النقد والنقد الذاتي، والمتلبس بحال من الاستعلاء والاستغلاق وحب السلطة أو الخضوع لمن هو في السلطة، يجعل فكرة المؤامرة مقبولة وسريعة الانتشار، فهو عقل يرفض الاعتراف بالخطأ ومراجعة حساباته، فالذات دائما لا تخطئ، والخلل دائما سببه الخارج.
أما إن كان مصدرها صاحب السلطة، فإنه يستعملها أداة لترسيخ حكمه، ووسيلة يوطد بها أركان ملكه، وحجة يبرر بها فشله وهزائمه المتوالية، وبمرور الوقت تتحول إلى ضرورة من ضرورات الاستبداد، فالحاكم المستبد غير الديموقراطي يساهم بأفكاره وأقواله وأجهزة إعلامه في ترسيخ الإيمان بالنظرية العامة للمؤامرة؛ لأنه بذلك يكون قادرا على إخفاء خطاياه وأخطائه وراء الادعاء المستمر بأن "كل هذا الحجم من الفشل والمشاكل والمعاناة" إنما يرجع لعناصر خارجية، على رأسِها المؤامرة، وليس للسبب الأكبر والحقيقي وهو غياب الديمقراطية ووجود حكام على شاكلته.
فإذا ما طلبت الرعية حريتها أجاب مستنكرا: "أهذا وقته والعدو علي الأبواب؟ [!!]"، أما إذا سألت عن أعماله وإنجازاته رد عليهم قائلا: "أهذا ما يشغل بالكم وأنا أنافح عنكم الأعداء بلا راحة، أنوء بثقل السلطة وتنعمون أنتم بثمارها... ألكم غُنْمُها، وعلي غُرْمُها؟ [!!]"، فيستغني بذلك عن شرعية الإنجاز، فلا رقابة ولا محاسبة ولا سؤال، ويصبح هدف وجوده المزعوم الدفاع عن البلاد، وتحقيق الأمن للعباد، والنتيجة التي لا مفر منها ضياع البلاد واسترقاق العبيد، فعندما عجزت السلطات عن تحقيق ما تطمح إليه الجماهير من حرية وحياة كريمة، وعندما بدأت الجماهير تستفيق من خَدَر الأيديولوجيات وتتذمر من حكامها وتوجه أصابع الاتهام إلى النخبة السياسية الحاكمة، وظفت هذه الأخيرة نظرية المؤامرة للتهرب من المسؤولية ولشغل الجماهير بالخطر الخارجي عن الانشغال بالأسباب الحقيقية للفقر والتخلف وسوء الأوضاع، ففكرة المؤامرة وتوظيفها بشكل مُضَخَّم هي أقصر طريق وأفضلها للتهرب من المسؤولية، ولإلهاء الجماهير.
إن ما يلاحظ هو أنه بعد كل فشل أو هزيمة تصيبنا يروج الفاعلون السياسيون مقولة المؤامرة الأجنبية بحيث بات الآخر، هو المسؤول عن كل مصائبنا، فإذا كانت السياسة لا تخلو من التآمر، ولكن السؤال لماذا تثار مجددا فكرة التآمر؟ وما هو الهدف من إثارتها؟ وكيف يمكننا التمييز بين المؤامرة كحقيقة، وبين القول بالمؤامرة كذريعة للتهرب من المسؤولية عن الأخطاء؟
إن رفضنا نظرية المؤامرة لا يعني إنكار وجود الآخر المتآمر، ولكن المرفوض هو استخدام هذا الآخر لتبرير أخطائنا، وإطلاق الأحكام والتعميمات دون أدلة وحقائق أكيدة. وإيماننا بوجود الآخر المتآمر علينا -وهو أمر يكاد يتفق عليه الجميع- يعني بالضرورة أخذ الحذر منه والانتباه لخطواته وتوقع ضرباته حتى لا نقع في شباك الوهم التي نقع فيها عادة المرة تلو المرة.
تذكرت كل ذلك حول حديث المؤامرة وخطابها وبحيث استرجعت أفكاره حينما وجدت عنوانا بخط عريض، مصر تهزم 6 مؤامرات دولية كبرى، وخطط السيسي التي أفشلت الحصار الاقتصادي والطائفية والإرهاب القطري والإرهاب ومؤامرة أوباما، وبدا عنوان يسند كل ذلك: معركة تثبيت الدولة ضد الفوضى، وبدت المفردات سيالة؛ مصر مستهدفة، أهل الشر، الإرهاب المحتمل، حروب الجيل الرابع والخامس، تدعمه في ذلك أبواق إعلامية ومنافقون بالجملة وجوقة من حاملي المباخر ومن كلاب الحراسة لمنظومة المستفيدين من الاستبداد وشبكات الفساد من أصحاب المصالح الدنيئة، إنها المؤامرة، في محاولة للتغطية على الفشل المقيم وتصنيع النجاح الزائف، ليكون حديث المؤامرة من كل هؤلاء عملية تزوير كبرى.