تُواجه جماعات "
الإسلام السياسي" انتقادات شديدة وقاسية، تدور في أغلبها حول "توظيفها الدين لأجندات وأغراض سياسية"، واستثمارها له كأداة للوصول إلى السلطة بحسب منتقديها من ذوي التوجهات السياسية والفكرية المختلفة.
تفتح تلك الانتقادات القاسية الأبواب على أسئلة حول أسبابها ودوافع مطلقيها، فما الذي يجعلهم يتخوفون من وصول الإسلاميين إلى السلطة؟ ولماذا يعيبون عليهم ممارسة حقهم المشروع تماما كما يمارسه غيرهم؟ أليس من حقهم ممارسة العمل السياسي الذي غالبا ما يتوج بتولي زمام الحكم وإدارة شوؤن الدولة؟
في إجابته على الأسئلة المثارة، قال الباحث التونسي، جلال العوني: "الحق في ممارسة السلطة السياسية والوصول إليها، يقوم على أسس فلسفية، ومبادئ فكرية لا بد من احترامها، فحق الجميع في ممارسة السلطة، يستند إلى رؤية فلسفية قوامها أن الإنسان هو صاحب السلطة الأصلية على نفسه، لذلك فحق التشريع، وسن القوانين التي تنظم الحياة العامة يعود له وحده".
وأضاف لـ"
عربي21": "السيادة هنا للشعب في مجمله، وهو من يفوض ممارسة السلطة لمن يراه أصلح، وذلك وفق شروط مسبقة بناء على عقد بين الحاكم والمحكوم، وعند الالتزام بهذه المبادئ يكون للجميع الحق -دون استثناء- في ممارسة السلطة السياسية".
وردا على سؤال: "هل حركات الإسلام السياسي تلتزم بهذه المبادئ؟"، أجاب العوني بأن "نظرية السلطة عند منظري الإسلام السياسي، والحركات الأصولية تعدّ السياسة جزءا من الدين، ولا تستقيم العقيدة إلا بوجود هذه السلطة، وفق المعايير الشرعية".
وتابع قائلا: "السلطة السياسية عند الإسلام السياسي تقوم على مبادئ عقائدية "التوحيد والحاكمية أساسا"، لذا فإن التشريع يكون حقا لله وحده دون غيره، وممارسة السلطة وفق هذه النظرية واجب على كل مسلم، فمن أسند حق التشريع لغير الله فهو مشرك كافر وجب قتله"، متسائلا: "فما بالك بحقه هو الآخر في ممارسة السلطة؟".
وبناء على ما سبق ذكره، ووفقا للعوني المعروف بنقده الشديد لحركات الإسلام السياسي "يتبين سبب تخوف الآخرين من امتلاك الإسلام السياسي للسلطة، لأنه وفق تنظيراته يعتبر السلطة حقيقة واحدة مقدسة، وهي وحدها التي تتصف بالشرعية الحقيقية، وبالتالي ملزمة".
ورأى العوني أن ما أسماه بـ"نظرية حركات الإسلام السياسي الشمولية للسلطة، المرتبطة بالعقيدة، ستفضي حتما لإقصاء كل من حاد عن أسس هذه النظرية العقائدية".
وتساءل العوني: "كيف تطلب الحركات الإسلامية بحق هي لا تعترف به لغيرها؟"، ليجيب: "الاختلاف بين حركات الإسلام السياسي، وباقي الأحزاب المدنية الحداثية جوهري في النظرة للدولة والمجتمع والسلطة والفرد، فلا يمكن الحديث عن تلاقي إذا كانت الأسس مختلفة 180 درجة"، على حد قوله.
واعتبر العوني أن "التساؤل عمن له حق في السلطة من عدمه سيظل بلا جدوى، ما لم يتفق الطرفان حول أسس نظرية وفلسفية تمنح الجميع الحق دون استثناء في ممارسة السلطة، ولن يكون هذا ممكنا ما دامت السلطة السياسية جزءا من الدين وأساسها العقيدة".
في السياق ذاته، أوضح أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية، توفيق شومر، أن "القضية ليست محصورة في الإسلام السياسي، بل تشمل كل مجموعة دينية تريد أن تفرض تأويلها للدين على الآخرين من خلال امتلال السلطة بغض النظر عن الدين الذي تتبعه".
وأضاف: "فالدين، أي دين قابل للتأويل بأشكال متنوعة ومتعددة، وبالتالي فمن الممكن أن تكون هناك عدة اجتهادات بشرية حول مفهوم معين أو طريقة حياة معينة، يتم تصويرها على أنها مشيئة الله، وأن من طرح المسائل بهذا الشكل هم الوحيدون الذين يعرفون تلك المشيئة، لأنهم ينفذون أوامر الله.
وأبدى شومر في حديثه لـ"
عربي21" تخوفه من أن النقاش حينئذاك سيتحول من كونه يدور حول فهم البشر للحياة وشؤونها، إلى تحديد "مشيئة الله"، التي ربما يحتكرها بعض الناس، لتتحول رؤيتهم البشرية إلى تعاليم ربانية لا يمكن نقاشها.
ولفت شومر إلى أن "فهم هذه الحقيقة يسعف كثيرا في الإجابة عن السؤال الإشكالي: لماذا يصبح الحكم باسم الدين حكما خطيرا، يؤدي إلى قمع كل وجهة نظر لا تتفق مع ذلك التأويل الخاص؟".
وردا على سؤال: "أليس من حق حركات الإسلام السياسي السعي لامتلاك السلطة كغيرها من القوى والأحزاب الأخرى؟"، قال شومر: "من حقها أن تسعى لامتلاك السلطة كغيرها من القوى والاتجاهات الأخرى، شريطة أن تنزع عن تأويلاتها البشرية ثوب القداسة الدينية".
ورأى أستاذ الفلسفة أنه "لا بد من أن يتم فصل السياسي والاجتماعي والاقتصادي عن أمر الله ومشيئته، لأن كل ما يقال بهذا الخصوص لا يعدو أن يكون تأويلات بشرية، ولا يعبر عن مشيئة الله تعالى".
ودعا شومر جماعات "الإسلام السياسي" إلى "ضرورة التوقف عن ادعاء امتلاك حقيقة "مشيئة الله" فالله أجل وأكرم وأعظم من ادعاءاتهم، بحسب عبارته.
من جهته، رأى أستاذ الفقه وأصوله في دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا في المغرب، الناجي لمين أن "تلك الانتقادات والاتهامات الموجهة للحركات الإسلامية السياسية تندرج تحت يافطة التجاذب السياسي، والتدافع الانتخابي".
وأشار إلى أنه "لا عيب على تلك الحركات من هذه الناحية، فهي كغيرها لها الحق في الوصول إلى السلطة، وقد وصل بعضهم ومارس شيئا من الحكم، وبقيت أيديهم نظيفة، وسيرتهم حسنة".
وانتقد أستاذ الفقه وأصوله تلك الحركات بقوله: "لكن العيب كل العيب بالنسبة لي، هو من الناحية الفقهية والثقافية؛ فهم في غالبهم محتقرون للثقافة الفقهية التي كان عليها أغلب الأمة، ودعوا إلى إسلام بلا مذاهب، ونشروا ثقافة فقهية لعلماء كانوا على هامش الطريق السيار، فأصبح هؤلاء العلماء الأفراد الحَكم على تراث الأمة".
وتابع نقده: "وهم بهذا الصنيع خرجوا أجيالا، افتقدت للحصانة الثقافية، واستجابت لكل ناعق دجال، وأسهموا في ظهور مذاهب وتيارات لا قبل للمسلمين بها، فهم أرادوا أن يميتوا المذاهب الأربعة، فتسببوا في نشوء عشرات المذاهب، بل كل عالم أصبح يمثل مذهبا، وله أتباع".
بدوره، أرجع الناشط السياسي الكويتي، أسامة الثويني أسباب تلك الانتقادات الموجهة لحركات الإسلام السياسي إلى "الأوضاع التي صنعها المستعمر، حينما بسط نفوذه وركز أقدامه في كل مفاصل الحياة في المنطقة".
ووفقا للناشط الكويتي من حزب التحرير، الذي يسعى لامتلاك السلطة، لإقامة دولة
الخلافة "فقد كان للثقافة الأجنبية الأثر الأكبر في تلويث الأوساط السياسية بأفكارها العلمانية والليبرالية، فصار المثقف والسياسي لا يتصور السياسة، ودور الدين في السياسة إلا تقليدا للغرب؛ باستحضار معارك وهمية (الزمني/ الديني)، وعلاجات موهومة (الدولة المدنية وفصل الدين عن السياسة)".
ويخلص الثويني إلى أن "تلك المدخلات الثقافية والفكرية الغربية أنتجت بشكل طبيعي مخرجات تتسم برفض تدخل الإسلام في صياغة الحياة والدولة والمجتمع، ورفض كل من يحمل هذا التوجه".
واعتبر الناشط الكويتي أن "المشروع الإسلامي المبدئي يتمثل في استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة، التي تطبق الإسلام كاملا في الداخل، وتحمله للخارج بالدعوة والجهاد".
ورأى الثويني أن "المشروع السياسي الإسلامي، يستهدف السلطة لاستلام الحكم بكل وضوح ومن غير مواربة"، لافتا إلى أن "هذا الاستهداف ليس لذات السلطة، بل هو طريقة لتطبيق الإسلام في واقع الحياة".