برز في سنوات الربيع العربي استخدام الثورات المضادة لمصطلح الدولة بكثافة، وذلك كوسيلة تبريرية للتغطية على الهجوم المعاكس الذي شنته نخب الحكم القديمة على ثورات الشعوب، وخاصة وأن هذه النخب تحتل جميع مفاصل الدولة وتتحكم بأليات تشغيلها وتعرف الاستفادة من مخرجاتها وتوظيف مواردها في خدمة مصالحهم.
في سورية ومصر، وقبلهما في الجزائر، ارتكبت أنظمة الحكم مختلف أصناف المجازر بحق الشعوب، بذريعة أنهم الدولة، وأن الدولة وحدها من يحتكر حق إستخدام القوّة، وبالتالي يغدوا كل ما يجري إرتكابه من إنتهاكات اعمال مقدسة لا يجوز نقدها أو مراجعتها، وكل من يفعل ذلك إما متأمر على "الدولة" أو إرهابي يسعى لتقويضها وتدميرها.
لاشك أن الدولة هي واحدة من أهم منتجات عصر الحداثة، بوصفها الإطار الناظم للمجتمع والضابط لصراعاته، والكيان الضامن لأمن الجوار والذي يحقق مصالح مجتمعه ويضمن مصالح المجتمعات الأخرى، وذلك كبديل للعلاقات الفوضوية التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل ظهور الدولة وتعدّد السلطات والمرجعيات.
لكن أيضاً هذا الكيان الحداثي ليس كتلة صماء تأمر فتطاع، وليس وحشاً أسطورياً كما وصفه الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز في كتابه " الليفياثان" بل أنه يتشكل بدرجة كبيرة من تفاعلات أعضائه ومن ثقافتهم، وينطوي على قيم العدالة والمساواة، ويتأسس على مبدأ المواطنة، ومن دون هذه الشروط لا معنى للدولة، او انها تتحوّل إلى خيمة يتضلل تحتها حاكم مستبد أو فئة غالبة.
لم تخرج الدولة، في معظم بقاع العالم العربي، عن كونها أداة لصناعة الطغاة، والجهة القابلة للتطويع والتكييف مع مقتضيات الحاكم أو لتفصيل مخرجاتها على مقاسات مصالحه وبما يتناسب مع رؤيته في إدارة الحكم وموقعه في التحكم بالتفاعلات الاجتماعية وتوجيهها في سياقات محدّدة.
واللافت أنه في التجربة العربية مع الدولة غالباً ما جرى إسقاط عنصر الشعب بوصفه أهم عناصر وجود الدولة، مقابل تضخيم عنصر السلطة، وبما أن الأمور يجري تنظيمها وإدارتها من الهرم إلى القاعدة، فإن مسؤولية الهرم هندسة القاعدة والتحكم بها وشطب وإلغاء الأجزاء التي يراها الحاكم غير ضرورية أو وفقاً لتقديراته مؤذية للدولة.
ولفهم مدى انحراف هذا النمط من التنظيم يتوجب معرفة أن الدولة الحديثة يجري إدارتها من القاعدة، الشعب، الذي يحدّد صلاحيات الحاكم ويضع الدساتير ويختار الحاكم ويعزله، كما أن المؤسسات الناظمة لعمل الدولة هي مؤسسات تتمتع بالديمومة بعكس الحاكم الذي تكون فترة حكمه محدّدة بسقف زمني لا يجوز له تجاوزه.
تتلطى الأنظمة العربية، وهي ليست سوى تشكيلات عصابية، بالدولة لتمارس كل ما من شأنه مخالفة روح الدولة وأساسات قيامها وإستمرارها، ولا تأنف هذه العصابات من إستخدام أقسى أنواع الإبادة الجسدية والمعنوية بفخر وإعتزاز بذريعة حماية كيان هلامي تسيطر عليه اسمه الدولة، من يتذكر منا حكاية " نكاح الجهاد" الإسطورية التي روّج لها إعلام "دول" مصر وسورية وتونس، وهم يعرفون مسبقاً أنها تركيب المقصود منه كسر معنويات الأكثرية من محكوميهم.
والمفارقة أن هذه الدولة تطبق بحرفية مهمة الدولة الحديثة في الحفاظ على أمن الجوار، وإن كان ذلك يجري بطريقة كلبية إستكانية يصل إلى حد التنازل عن مصالح الشعب الأساسية، تماماً كما فعل نظام الأسد "الأب والابن" في علاقاته مع إسرائيل وتركيا، وكما فعل حكام مصر في علاقاتهم مع إسرائيل ودول حوض النيل، في محاولة لتظهير أنفسهم على أنهم ممثلون لدول حداثية تلتزم واجباتها تجاه البيئة الدولية.
وكذلك كي يستطيعوا الحصول على دعم هذه البيئة في حربهم ضد الشعوب التي يحكمونها، وبالفعل يبدو أنهم استطاعوا تسويق هذه المعادلة المهترئة والمكشوفة، بدليل أن دول الغرب أصبحت السباقة لإعادة العلاقات مع " دولة" الأسد بذريعة انه يقتل السوريين ولا يمثل تهدياداً لهم، كما أن نظام السيسي عبر على جثث ألاف القتلى السلميين في ساحات الاعتصام إلى علاقات واسعة مع الغرب.
إلى زمن، ليس معلوم نهايته، ستبقى الدولة في العالم العربي أحد مصادر اضطهاد الشعوب العربية، وجزءا أساسيا في أزمتهم، وإن كان ليس المطلوب أو الحل زعزعة هذا الكيان، لأن في ذلك انتحار، فإن النضال العربي يجب أن يتوجه صوب تخليص الدولة من أيدي الفئات التي سرقتها وحرّفت دورها واستثمرتها في سياق استبدادها، أو فإن الشعوب العربية ستبقى غريبة ومستعبدة في أوطانها.