سلط تقرير غربي الأضواء على ذكرى مجزرة سريبرينيتسا التي ارتكبتها قوات صربية ضد مسلمي البوسنة في العام 1995، قبيل أسبوع إحيائها وسط أجواء من التوتر تسود المدينة بعد انتخاب صربي متطرف لمنصب العمدة فيها.
ونشر موقع "ميدل إيست آي" تقريرا لـ"بيتر أوبورنود أليستر سلون"، يتحدث فيه عن خصوصية إحياء الذكرى هذا العام في ظل ما يقول التقرير إنها صعود للمتطرفين الصرب في المدينة، وما صاحب ذلك من "حالة الإنكار" لوقوع المجزرة لدى السياسيين الصرب.
وتاليا نص التقرير كاملا، الذي جاء تحت عنوان "مذبحة المسلمين: مدينة لا تزال تعيش حالة من الإنكار":
يعقد هذا الاحتفال المثير للأشجان في مقبرة بوتوكاري، حيث يواري الثرى جثث ما يقرب من ثمانية آلاف ضحية دفنت بعد أن عثر عليها. ويعتقد بأن أعدادا أخرى كبيرة من الناس ماتزال في عداد المفقودين في الجبال المحيطة بالمكان.
تقع المقبرة بالقرب من قاعدة الأمم المتحدة التي تخلت عنها قوات حفظ السلام الهولندية في "مبادرة قاتلة"، اعتبرت بمنزلة الضوء الأخضر الذي كان ينتظره مرتكبو الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا.
في العادة يكون إحياء الذكرى حدثا منضبطا ومهيبا يحضره زعماء ودبلوماسيون من أنحاء العالم كافة، بالإضافة إلى أهالي المنطقة، إلا أن الاحتفال الذي سيعقد الأسبوع المقبل يأتي على خلفية حدث مشؤوم ومرعب.
ففي أكتوبر الماضي انتخبت سريبرينيتسا ملادين غروجيتشيك، العمدة الصربي صاحب التاريخ القومي المتطرف.
والمشكلة تكمن في أن غروجيتشيك –وهو ابن جندي صربي قتل في الأيام الأولى للحرب الأهلية–، يرفض الإقرار بأن مذابح سريبرينيتسا ترقى إلى إبادة عرقية.
في العادة يؤدي عمدة سريبرينيتسا دورا رئيسيا في تنظيم الاحتفال، ولكن ليس في هذه السنة، حيث أخبرنا جميل دوراكوفيتش، رئيس اللجنة المنظمة الذي كان نفسه عمدة سابقا للمدينة، بأن "العمدة لم يدع إلى الاحتفال؛ لأنه ينكر الإبادة الجماعية".
أما منيرة سوباسيتش، رئيسة تجمع أمهات سريبرينيتسا، فتقول إن "كل من ينكر وقوع الإبادة الجماعية، فهو غير مرحب به في المركز التذكاري".
وقالت منيرة سوباسيتش، (67عاما) التي فقدت ابنتها نيرمين وزوجها حلمو في الإبادة الجماعية: "في بلدة شهدت ارتكاب إبادة جماعية، ليس من المقبول أن يكون عمدتها ممن ينكرون الإبادة الجماعية".
وتمثل المنظمة التي تترأسها سوباسيتش ما يقرب من ستة آلاف امرأة، فقدت كل واحدة منهن أعزاء عليها يوم الحادي عشر من يوليو/ تموز 1995.
إنكار الإبادة الجماعية
كيف يمكن لمدينة مثل سريبرينيتسا أن تنتخب منكرا للإبادة الجماعية التي وقعت فيها بعد عقدين فقط من المذابح البشعة، التي ارتكبت عن سبق إصرار وترصد وبدم بارد وراح ضحيتها ما يزيد عن ثمانية آلاف مسلم في هذه البلدة البوسنية، التي كانت وادعة هادئة في يوم من الأيام؟
وهذا أشبه ما يكون بانتخاب "بوخنوالد أو بيلسين" منكرا للمحرقة كعمدة لها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
الإجابة تثير الاشمئزاز، لقد نجحت مذبحة المسلمين البوسنيين (ما يطلق عليهم اسم البشناق) في تحقيق أغراضها.
تقع سريبرينيتسا في منطقة ريبوبليكا سربسكا البوسنية تماما على الحدود مع صربيا المجاورة، ولقد قام
الصرب بتطهير المنطقة بحيث أصبحت الآن منطقة ذات أغلبية صربية داخل البوسنة، وتتمتع بما يشبه الاستقلال الذاتي في أثناء الحرب الأهلية، ومن عاد من المسلمين فيما بعد لم يرحب به.
معظم سكان المدينة السابقين من المسلمين إما أنهم أموات أو هاجروا، ويسيطر على سريبرينيتسا الآن صرب البوسنة، الذين يرفض كثيرون منهم القبول بأن تطهيرا عرقيا وقع في المدينة.
يقول أحد الناجين من الإبادة الجماعية واسمه نيدزاد أفديتش: "بدأ طفلنا الأول في الذهاب إلى المدرسة المحلية، وهناك يعلمونهم بأن الإبادة الجماعية لم تحصل أصلا. وإذا فتحت التلفزيون يشعرونك وكأن الحرب لم تحدث بتاتا".
كان أفديتش قد أصيب بجراح بليغة بعد أن نجا من إطلاق نار جماعي، واختفى لعدة أيام. وشهد بنفسه مقتل المئات بينما كان مختبئا بين الأحراش.
وأخبرنا أنه وعائلته –زوجته كانت من الناجين أيضا– حاولوا بصعوبة العيش في سريبرينيتسا، ولكنهم الآن وصلوا إلى قناعة بألا جدوى وأنه لا خيار أمامهم سوى الانتقال.
وتقول ميرا دزوغاز، التي قتل أبناؤها في التلال المحيطة بمدينة سريبرينيتسا إنها ترى القتلة بشكل منتظم داخل المدينة، بل إن بعضهم يحتلون مواقع رسمية في الحكومة المحلية، بينما بعضهم شخصيات كبيرة داخل قوة الشرطة المحلية.
العمدة يدعي أن القبور التي في المقبرة زائفة
الحالة في سريبرينيتسا مناقضة تماما لما عليه الوضع في ألمانيا التي أقرت بكامل المسؤولية عن المحرقة واعتذرت عن الجرائم التي ارتكبها النازيون، أما في البوسنة، فما يزال كثير من الصرب ينكرون ما جرى.
في شهر نيسان/أبريل، صرح غروجيتشيك لوسائل الإعلام المحلية بأنه وقع على الكثير من الأدلة على أن القبور التي في المقبرة كانت زائفة، وأن الضحايا التي يفترض أن أهاليهم يحتفلون بذكراهم مازالوا على قيد الحياة، وقال مصرا على موقفه: "ينبغي مراجعة قائمة الضحايا وتبديلها".
غير أن الحقيقة تشير إلى أن سريبرينيتسا شهدت إبادة جماعية، تمتاز بأنها الأقوى توثيقا في التاريخ، حيق حكمت محكمتان معتبرتان عالميا –محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغسلافيا السابقة– بأن جرائم القتل التي ارتكبت في سريبرينيتسا كانت بالفعل إبادة جماعية.
ومن اللافت أن غروجيتشيك حظي في حملته الانتخابية بدعم شخص آخر ينكر وقوع الإبادة الجماعية، وهو ميلوراد دوديك، الذي قال في العام 2010 إن الإبادة سريبرينيتسا "لم تحصل"، مضيفا أنه "لو أن إبادة جماعية وقعت، فهي التي ارتكبت ضد الشعب الصربي"، زاعما بأن المسلمين البوشناق "قتلوا النساء والأطفال والعجائز بالجملة."
ويظهر تولي دوديك منصب رئيس مقاطعة ريبوبليكا سربسكا أن منكرو الإبادة الجماعية باتوا جزءا لا يتجزأ من القومية الصربية، بعد ما يزيد عن عقدين من وقوع الجريمة، كما أصبح لغلاة القوميين الصرب وجود متنام في البلدة، بحسب ما يقوله العمدة المسلم السابق جميل دوراكوفيتش.
وكان دوراكوفيتش في أثناء الإبادة الجماعية فر من سريبرينيتسا إلى توزلا التي تقع تحت سيطرة البوسنة، قبل أن يلتقي بوالده وشقيقه الأكبر في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ظن أنهما قتلا، حيث نقلا إلى معسكر إبادة في صربيا.
ويقول دوراكوفيتش، الذي شغل منصب العمدة من 2012 إلى 2016، إن القوميين الصرب كانوا يعقدون اجتماعاتهم بشكل منتظم عندما كان هو العمدة، وأن مكتبه كان كلما اجتمعوا أصدر بيانا يندد بهم.
ويتهم دوراكوفيتش العمدة الجديد بالوقوف متفرجا، بينما يزداد حجم هذه التجمعات يوما بعد يوم وتزداد وتيرة انعقادها، ويضيف: "في كل يوم أرى في البلدة أشخاصا يرتدون قمصان الشتنيك ويرفعون الأعلام"، في إشارة إلى عقيدة الشتنيك التي تؤمن بصربيا الكبرى، والتي تعتبر الأساس الذي تقوم عليه القومية الصربية.
ويقول العمدة السابق إن "العمدة الجديد يمنح القوميين الصرب هامشا ينشطون فيه، كما أن المئات من المتطرفين الصرب يتجمعون في أيام القديسين المسيحيين الأرثوذكس يغنون ويتظاهرون"، مضيفا أن "بعضهم يأتي إلى البلدة عبر الحدود من صربيا ومن المناطق التي ما بعد نهر درينا".
والمرعب في الأمر أن غروجيتشيك وجد فيما يبدو حليفا جديدا هو دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، فقد استضاف عمدة سريبرينيتسا المنكر لواقعة الإبادة الجماعية على مائدة إفطاره من أجل الصلاة في شهر شباط/فبراير الماضي.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار خطاب ترامب وخطاب مستشاريه المعادي للمسلمين، فإن العلاقة بين الرجلين سيكون لها تداعياتها الخطيرة.