أنا المواطن العربي الأعزل من الأيديولوجيا أعيش خارج هذه الحرب لكنها حرب ضيعتني لنصف قرن ولا تزال مفتوحة على غيب كريه. أرى نتائجها عيانا ويصلني لظاها مع قهوة الصباح وكلما تظاهرت بتجاهلها دخلت علي خلوتي وأفسدت علي سلامي الداخلي. وهددت وجودي. أصل إلى قناعة ثابتة مع كل حدث جديد يسعّرها. لا سلام في وطني وهذه الحرب مستعرة لا تقدم وهذه الحرب تأتي على أخضر الأمل ويابسه. وتحفر الأخاديد التي لا تنطفئ نيرانها بين الأخوة الأعداء. أوطان تضيع وشعوب تتقهقر نحو جاهلية جهلاء.
الحرب بين التيارات العلمانية والتيارات الإسلامية في الوطن العربي حرب كافرة بالمواطن وبالإنسان وبالتاريخ وبالمستقبل وحصادها الآني والبعيد يصب في خزينة الصهاينة ويمكّن لكيانهم الظالم ولو أنكر المنكرون من الصفين. وسينكر المتحاربون هذا الاستنتاج الذي يدينهم فالاعتراف به لحظة وعي ونقد ذاتي لا تزال بعيدة عن هؤلاء الذين باسم التقدمية وباسم الإسلام يقسمون الوطن نصفين ويبيعونه بسوم بخس.
آخر الوقائع صعودا إلى أول الربيع العربي.
أعلن حصار قطر من قبل ثلاث دول خليجية. فانبرى شق من الشارع العربي يشمت في قطر ويدافع عن الحصار ويقبل ذرائعه المعلنة أي مقاومة الإرهاب ثم انجلت الأسباب الحقيقة للحصار: قطع الإمداد المالي والإعلامي عن المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركة حماس الإسلامية (الإخوانية) اختفت الذريعة الإرهابية وانحصر النقاش في مشروعية تجفيف منابع حركة حماس. ولم يرعو مساندو الحصار من خارج البلدان الثلاثة.
الخطة تصب في مصلحة الكيان الصهيوني الذي رحب واستبشر بسلام نهائي مع عرب جدد ولكن ذلك أفضل عد شق كبير من الشارع العربي. لقد لحس هؤلاء كل ما قالوه طيلة نصف قرن عن الرجعية العربية الخائنة لقضايا الأمة والمبددة لثرواتها. كان النظام السعودي والإماراتي وبقية الطيف الخليجي منذ دولة عبدالناصر متهمين بالخيانة ولكن عندما ينقسم هذا الصف فيناصر بعضه قضية العرب المركزية بالمال والإعلام والموقف السياسي تصير الحرب عليهم من قبل بقية الطيف الرجعي عملا قوميا وتقدميا.
في صائفة 2016 حدثت محاولة انقلابية في تركيا فشلت منذ ساعاتها الأولى واندحر الانقلابيون أمام سلطة سياسية مدنية منتخبة وتتمتع بسند شعبي قوي لكن الشق الذي وقف محاصرا قطر هذه الأيام وقف حينها مساندا للانقلاب العسكري التركي الفاشل وحسب الساعات الأخيرة في عمر نظام أردوغان وخاب ظنه ولكنه انكشف كشق معاد للديمقراطية والعمل المؤسساتي.
في صائفة 2013 حدث الانقلاب العسكري المصري على أول تجربة ديمقراطية في مصر. وانحاز نفس الشق إلى الانقلاب مهللا للمذبحة الرهيبة التي حدثت في صفوف انصار السلطة المدنية هناك. وقيل الكثير عن تقدمية العسكر وقوميته وانخراطه في معركة تحرير فلطسين(سمعنا كلاما كثيرا عن السيسي وريث عبد الناصر) واليوم يقف أنصار الانقلاب على وقائع فاجعة العسكر يبيع مصر ويتخلى عن مقدراتها الاستراتيجية في الماء والحدود والموقف من القضية لكن لم يفقد العسكر شعبيته عند هؤلاء. فالعسكر على حق مادام الإخوان في السجن.
في الأثناء ظهر حفتر في ليبيا وقد كان لوقت قريب خائنا للأمة وجاسوسا أمريكيا على القائد. لكنه أصبح بقدرة قادر زعيما قوميا يعمل على تحرير فلسطين بدا من ليبيا.
ويمكن أن نعدد الأمثلة إلى ما لانهاية فالسبب واحد والنتيجة واحدة فمن هؤلاء الذين يقفون مع العسكر في كل مكان ومع الرجعية العربية القديمة ولو صبت موقفها وسياساتها لصالح الكيان الصهيوني؟
تحديد الموقف على أساس معاداة الإخوان المسلمين.
يعمل هذا الشق منطلقا من مبدأ ثابت لا يتغير منذ سبعين عاما. انظر أين يقف الإخوان (الإسلام السياسي) واتخذ الموقف المعاكس. ولا تناقش ماذا كان الإخوان على حق ولو نسبي في ما يفعلون. الإخوان خونة وعملاء (لم نعد ندري لمن؟) ولكن المبدأ ثابت عادهم وأفعل عكس ما يفعلون ولو كان تسليح المقاومة في فلسطين ودعمها بالمال والموقف.فمن هؤلاء إذن؟
إنهم القوميون العرب بكل شقوقهم البعثية والناصرية والقذافية ومعهم كل أطياف اليسار العربي مشرقا مغربا ورموزهم الكبيرة الثوريون منهم والثقافيون الديمقراطيون وينظم اليهم في هذا الموقف كل الليبراليين العرب من فلول الأنظمة الحاكمة والتي لا تزال في الحكم أو العائدة اليه بحيل العسكر والصندوق. ويمولهم غالبا لصوص المال العام ومخربي البنوك وبارونات التهريب وتزييف العملة ثابتهم واحد معاداة التيار الإسلامي ومنعه من الوجود قبل الوصول إلى الصندوق ومنعه من الحكم إذا وصل إليه بالصندوق. ولقد تيسر لهذا الشق زمن طويل وقدرة كبيرة على منع التيار الإسلامي من الوجود فحاربوه في رزقه وماله عياله وشردوه في أطراف الأرض مستعملين أجهزة الدول ومتواطئين دوما مع حكامها الخونة.
إن ما وحد المواقف المذكورة أعلاه هو أن التيار الإسلامي موجود فيها بل محركها الأساسي والمستفيد منها في المدى المنظور فالنظام القطري إخواني الهوى وإن لم يصرّح وحماسه لحماس يأتي من هذا الباب وكذلك النظام التركي والنظام المدني ما قبل العسكر في مصر. والذي وصل بحكم الصندوق.
لا يتم مناقشة المواقف ونتائجها بالنظر إلى مصلحة عربية مشتركة قد تجمع كل الأطراف وخاصة ما يتعلق بقضية العرب المركزية. لا يتم البحث عن أنصاف المسافات والتصرف على أساس ثوابت الأمة التي طالما تحدث عنها التيار العروبي واليساري وبنى عليها أدبياته السياسية بل يتم النظر في احتمال استقواء التيار الإسلامي بالمشاركة في علاج هذه القضايا واحتمالات أن يستفيد منها سياسيا في كل قطر ليصبح فاعلا ضمن فاعلين أو فاعلا أولا .
هنا لا تصبح ثوابت الأمة ثوابت جامعة بل هي ملك مخصوص لتيار لا يمكن مجادلته أو مشاركته فيه. لقد مد النظامان التركي والقطري يد المساعدة لمصر وتونس بعد الثورة فوقعت المساعدات بين أيدي الإسلاميين الواصلين للحكم بالانتخابات وكان ذلك سيمنحهما فرصا جيدة للبقاء في السلطة فيتحولان بعد طول إقصاء إلى شركاء في الوطن وربما يحكمان لمدة طويلة. فكان الموقف المبدئي معاداة الأتراك والقطرين وما يأتي منهما ولو كانت الفائدة بالغة للبلدين لا للتيار الإسلامي وحده.
يسقط هنا الحديث عن الديمقراطية والحرية ويصبح كل انقلاب عسكري محمودا مادام يؤدي إلى قطع المدد وتجفيف منابع التيار الإسلامي وتستحضر تهم الخيانة والعمالة وهي جاهزة وتغفل تفاصيل مهمة وذات معنى مثل وقوف النظامين المذكورين مع كل نفس مقاوم ولو كان على اختلاف مذهبي. (حزب الله 2006).
والنتيجة الواضحة هي أن تجربة الديمقراطية تتراجع وتنهار الآمال المعقودة على تطور سليم ولو بطيء نحو الاستقرار داخل السلم والشروع ولو المتعثر في بناء مؤسسات حكم ديمقراطي. وهنا أبدا أنا المواطن العربي الواقف خارج التيارين في حساب خساراتي الجسيمة ولفلفةأحلامي في قراطيس اليأس الأبدي.
دار الخراب
في خريف 2013 وبعد انقلاب العسكر المصري كان المستثمر القطري (الديار القطرية) على وشك إطلاق مشروع سياحي كبير في منطقة الجريد التونسي باسم الديار القطرية وهو مشروع كان يمكن أن يحل مشكلة التشغيل في المنطقة التي تعاني من بطالة عالية. تم إفشال المشروع لأن المستثمر قطري ليس أكثر وكان ذلك سيحل مشكلة كبيرة في منطقة محرومة قد يستفيد منها حزب النهضة الإسلامي الذي كان لا يزال حاكما (وإن كان أعلن انسحابه). لم يتم الاعتراض على المشروع لأن سياسة الدولة التونسية في مجال السياحة هي سياسة فاشلة وغير منتجة لتنمية حقيقية بل تبقي البلد في سياق اقتصاد الخدمات الهش.لاحقا سيتم إطلاق مشروع سياحي إماراتي في منطقة الحمامات ولكن بعيدا عن حزب النهضة واحتمالات فوزه بمغنم سياسي من وراء ذلك.
هذه الخسارات ليست فردية أو موضعية بل خسارات وطن ومواطن. لا فائدة له في التواجد ضمن هذا الصراع ولا ينحاز إلى أحد شقوقه.
لقد حدثت ثورة لم يقدها أي من هذين التيارين وظهرت مطالب الشوارع العربية جلية لاغبار عليها. الحرية السياسية والتنمية الاقتصادية. لكن هذان التياران اصطرعا عليها ففشلت الثورة وخسرت الشعوب آمالها وطموحاتها وهي تنكمش الآن عاجزة عن فض الخصومة الأزلية. كما كانت خارج الصراع زمن الدكتاتوريات. دون أن نغفل تلك الفوائد الجمة التي جنتها الأنظمة من هذا الصراع على حساب القضايا التي تفيد المواطن.
يخاض جزء من الحرب على أساس تخوين التيار الإسلامي فهو عميل لقطر وتركيا ولكن من يخوّنه يتمول من الإمارات وفرنسا والسعودية نفسها رمز الرجعية العربية ومركزها لعقود طويلة.(بعض زعماء التخوين لا تطيب لهم القهوة إلا في مقاهي باريس مع اليسار الصهيوني التقدمي).
يخاض جزء آخر تحت يافطة تقدمية ضد رجعية فالتيار الإسلامي رجعي ظلامي (إرهابي) ولكن خصومه يروجون لمواقف وسياسات أشد الأنظمة رجعية (السعودية) ودموية (بشار الأسد). دون أي شعور بالتناقض. ولم نر اليسار العربي وقومييه العرب يتورع عن مساندة العسكر في مصر وفلول بن علي ونظامه في تونس أو العسكر التركي الذي خسر مواقعه أمام تقدم أردوغان الإسلامي.بما يسقط كل ذريعة من هذا القبيل فعناوين الخصومة مزيفة وجوهرها صراع وجود بين تيار اليسار العربي بفصائله القومية ومعهم كل فلول الأنظمة التي أسقطتها الثورة.
صراع الخسارات للمواطن العربي الثائر على وضعه البائس والباحث بشغف ولهفة عن وجود ضمن الديمقراطية وعن التمتع بالحرية ككل شعوب الأرض التي بنت ديمقراطياتها بهدوء ولو على فترات زمنية طويلة لتصل إلى ديمقراطيات مستقرة.
لم أر أبدا جدالا فكريا مع الإسلاميين ونقدا لبرامجهم وسياساتهم زمن كانوا متنقلين بين سجون الأنظمة القومية خاصة ولم أر من ينقدهم وهم في السلطةوهو أمر ممكن وتتوفر عليه أدلة تجعل الإسلاميين جهة غير عبقرية ولا مبدعة في ما تفعل ويمكن خوض الانتخابات ضدها على أسس برامجية تقدمية فعلا. لكني رأيت استئصالا ماحقا يمنع هؤلاء حتى من حق المشاركة في معركة الأمة تحرير فلسطين. ولا يبدو أن هذه المعركة ستحتكم إلى عقل أو منطق أبدا.
أنا المواطن العربي المقهور من هذا الصراع أكثر من قهري من ظلم الأنظمة نظرت فرأيت نفسي أخسر. كنت أعرف ولا أزال أن التيار الإسلامي لا ولن يأتي بالمعجزات ولو ادعى وكنت آمل أن يخوض تجارب الحكم ويعتدل في حجمه وخطابه وقد بدأ يفعل تحت ضرورات الحكم ويغادر مواقعه الطهورية التمامية (الأصولية) القائمة على شعار مبهم وغامض أن الإسلام هو الحل.
كان ذلك سيمهد لتعديل الموازين تدريجيا أمام الصندوق ويفتح بوابات التنافس السياسي الطويل النفس الذي يسمح لي بالاختيار بين من يخدمني أكثر كمواطن. لكني بفعل هذه المعركة التي لا حل لها إلا بمحق أحد طرفيها. أؤجل أحلامي وطموحاتي المواطنية في انتظار أن يفعل الموت فعله وأن يقهر الزمن أحد طرفي المعركة أما الصلح بينهما من أجلي أنا المواطن فقد ألغيته وها أنا أعلن هزيمتي فقد كنت خارج المعركة ولن أشارك في نهايتها. لقد وئد الربيع العربي لأن هذه المعركة لم تحل قبله ولن تحل بعده. أفليس من الخسران المبين أن يصير أمثال حفتر ودحلان والسيسي وبشار الأسد من زعماء الأمة. إن الأمة التي يخطط لها دحلان مستقبلها لا تحتويني. والنخبة التي ترحب به كزعيم مفدى لا تمثلني. أنا مواطن عربي مجهول ضيعني قومي.
1
شارك
التعليقات (1)
عماد
الخميس، 15-06-201705:47 م
"عمري ضايع يحسبوه الزاي عليا" من جراء الإستبداد والعقول السلطوية وحرب بين تيارات علمانية واسلامية. كلتا التيارين ضاع من تحت قدميهما الطريق ! لان الأول برمجت ذاكرته على الطريقة المتغربة والثاني لم يستطع ركوب المعاصرة. ورغم تعثر الثاني للركوب حقق ولادته ! فاصبح الاول يتوارى من القوم من سوء مابشر به ! وأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها و لم يظفر بما سمي بالربيع العربي لا بناقة ولا ببعير ! الإثنان يشكواني من قلت التجربة السياسية. لان الأنظمة القمعية لم تسمح باحديهما بالتداول أو حتى بالمشاركة في السلطة؛ الا اذا قبلا بالإنصياع لاوامر الدكتاتور وتنفيذ اجندات معينة مثل سياسة تجفيف المنابع ! لما سقط الدكتاتور ذهول النور الى نذير طالع .. وإذا الفجر مطل كالحريق فبدت الدنيا كما نعرفها . المنبت لم يجد في الغرب، الذي ساند الإنقلابات ضد الديمقراطية التي يتبجح هو نفسه بها، عونا فلجأ الى عملاء الغرب المستبدين الأغنياء الذي ايقنوا أن ما يحدث مقوض لامحالة ملكهم. أما الإسلاميون فلقد تبين كاشفا عدم استعدادهم لتسيير أمور بلدانهم وعدم تلاحمهم وتازرهم فرغم ادعائهم الإسلام هو الحل لم يجد الاسلام فيهم حلا ! وإذا الأحباب كلٌّ في طريق...