(1)
لست خبيراً في الشأن الخليجي لأكشف لكم عن حقيقة ما يدور هناك، لكنني خبيرٌ في الحزن، وضليعٌ في الشعور بالخيبة، ومتمرسٌ على تحمل مظاهر التناحر والتشتت والغدر، ومفطومٌ على حليب النكسات وخبز المؤامرات، وهذه الخبرات السلبية هي ما تجعلني خبيراَ في كل الشؤون العربية.. فما شؤون العرب اليوم إلا حزن وخيبة، خصام وفُجر، تناحر وهدر، تشتت وغدر، و....هزائم ترتدي قناع النصر؟!
ومع ذلك ورغم الحقيقة المخجلة التي نعاشرها صباح مساء في حياتنا اليومية، لن أكتب عن الزوبعة التي أثارها قرار قطع العلاقات مع قطر من جانب السعودية (وعدد من أتباعها)، لأنني ببساطة ووضوح ضد كل الأطراف.. ضد كل هذه الرعونة العربية.. ضد كل هذا الغباء الانتحاري.. ضد الأنظمة العجفاء الشائخة التابعة، التي أدت بنا إلى كل الهزائم التي عانت منها أمتنا، وكل المساخر التي وصلت إليها صورتنا، وأهدرنا فيها ثروتنا، بل وشاركت (بعماء أو عمالة لا فرق) في كل المؤامرات التي أضعفت قضايانا وزلزلت مكانتنا في المجتمع الدولي.
(2)
كيف أكتب عن قطر دون أن أدافع عنها؟ وكيف أكتب عن أميركا دون أن ألعنها؟ وكيف أكتب عن السعودية دون أن أهاجمها؟ وكيف أكتب عن الإمارات دون أن أضعها في حجمها؟ وكيف أكتب عن مصر دون أن أخجل من حكامها؟... المهمة تبدو مستحيلة.
(3)
آه لو أقدر على الصمت، لكن "الصمت موت" كما قال معين بسيسو.. آه لو اقدر على القول، لكن كما قال بسيسو أيضا ثم مات: "القول ليس ما يقوله السلطان والأمير/ وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير/ فأنت إن نطقت مت/ وأنت إن سكت مت/ قلها.. ومت".
وها أنا أقول:
(4)
في الأسبوع الماضي كتبت مقالا عن المشهدية، و"البيرفورمانس" والأداء التمثيلي (المصطنع) على خشبات المسارح السياسية، وقد تعرض المقال للاسكتشات المتعلقة بانتخابات الرئاسة المصرية، لكن قمة الرياض الاسلامريكية، كانت نموذجا أكثر إبهارا لتطبيق هذا المفهوم الذي تحدث عنه راؤول فانيجيم في تحليله لثورة الشباب في 68، ثم طوره ديبور في كتاب "مجتمع الفرجة"، ثم أسس عليه جون بودريارد فلسفته المذهلة التي تجاوز فيها أطروحة نيتشة عن "موت الإله" فأعلن "موت الواقع" بكل ما فيه من حقائق وثوابت، مدعيا أن "الاصطناع" هو القاتل وهو الوريث، إذ يكفي أن تختلق أي شيء، وتكرره كثيرا على الناس، حتى يحتل الشاشات والساحات والأدمغة، حينها سيتوارى الواقع، سيموت وتحل محله "الصورة"التي صنعتها، ستصبح هي "الحقيقة" التي يمكنك أن تقيم على أساسها العرض الجديد الذي تريد أن تحشو به أدمغة الناس، وتبرر به ما تريد أن تفعله.
(5)
تابعت مؤتمر الرياض، وفتشت في الصور، وفي اللغة المصطنعة، وتبينت أن الممثلين على المسرح يقدمون عرضا مثيراً وغامضا، ويوحي بفصول لاحقة، سرعان ما هلل له ليبرمان في الكنيست: "لقد عثر العرب على عدوهم.. وعدو إسرائيل.. الصهيونية ليست العدو... الإرهاب الإسلامي هو عدونا المشترك".
صيحة ليبرمان تعني أن نسارع بتسمية "عدو منا.. غيرنا"، كأن نصرخ: امسك إيران، فهي تدعم الإرهاب، وامسك قطر فهي تتآمر مع إيران، أو امسك حماس، وحزب الله، والإخوان، حتى أن "داعش" و"القاعدة" شركاء التحالف في اليمن وفي غيرها يمكن نسيانهم وتبرئتهم من الإرهاب في العرض القادم، لأن كل طرف مشغول بتسمية طرف آخر وتدبير الأدلة ضده، بينما يجلس الجميع في رحاب الإرهابي الدولي الكبير
(6)
في القمة كان أداء عبد الفتاح السيسي مطابقا للنص، فالممثل لم يرتجل هذه المرة والتزم بالكلمة المعدة سلفا، والتي أشارت بإيماءات رمزية إلى قطر وإلى تركيا كممولين وداعمين للإرهاب، وهو أمر لم يكن يمر دون موافقات مسبقة من المضيفين.. قد يكون أداء السيسي قديما وإيماءاته مكررة، لكنه هذه المرة كانت أكثر مباشرة، وسرعان ما كشفت المفاجأة عن تطور في دور الأخ الخليجي الأكبر، فانقلب على شريك له في "التحالف" وفي "التعاون"، وتصاعدت اللعبة المسرحية للوصول بالمشهد إلى ذروة معدة سلفاً، يمكن أن نسميها على سبيل الكوميديا "إرهاب الإرهابي للإرهابي"، على اعتبار أن العرب جميعا صاروا إرهابيين في نظر العالم وفي نظر بعضهم البعض!
(7)
الأمر لا يحتمل الهزل، فالمصيبة كبيرة، في وطن لا تزال جراحه مفتوحة في العراق وفي سوريا وفي ليبيا وفي اليمن، لكنه أيضا وبكل صراحة لا يحتمل التصديق كأمر واقع، دعونا نتعامل معه كمسرحية، ليسهل علينا تغيير النص في عرض قادم، لأن المعركة صارت كئيبة ودموية، نلعب فيها نحن دور الجلاد ودور الضحية، نتقاتل بحماس كعبيد روما أملا في إرضاء الأسياد أو توهما في خلاص وهمي، ونطلب السلاح من "العدو الذي كان" لنقتل به بعضنا البعض، بينما يهلل "العدو الصديق" لخلافاتنا ويعتبرها "نافذة جيدة للتعاون"، هناك من يوجه الاتهام لمصر بدعم الإرهاب في دارفور، والتدخل الصريح مع أطراف ضد أطراف في ليبيا باسم "الأمن القومي"، وهناك من يتهم السودان أيضا، حتى أن تقديم الشكاوى ضد زعمائنا في "الجنائية الدولية" صار موضة عربية منتشرة، سوريا إرهابية، وأرضها تشهد أن كل الدول العربية إرهابية، قطر تدعم الإرهاب وتأوي الإسلاميين المناوئين للحكام الذين يعتبرهم البعض "سفاحين" مطلوبين، لكن السعودية وحدها تحمل راية السلام وتحارب الإرهاب في كل مكان.. في العراق المذبوح عربيا، وفي سوريا وليبيا واليمن، حيث تمارس المملكة المتسامحة رحمتها الإقليمية وعطفها على الجيران.
(7)
لا أعرف إن كان هذا المقال سينشر أم لا، فالمحظورات العربية كثيرة، والتداعيات في بلادنا المقموعة أخطر من لحظة الانفجار، لكنني أراهن دائما على المأمول، وأفكر أحيانا أن كل أزماتنا بسيطة إذا انتبهنا إليها مبكرا، فقنابلنا "فشنك" إلا إذا تدخل فيها الأسياد من خارج الحدود، وغضبنا ليس إلا "زوبعة في جزيرة"... هبت فجراً بأسباب مصطنعة وأهداف مكشوفة، وسوف تهدأ ليلاً مع استمرار الأسباب والأهداف والانكشاف، فكل شيء في الجزيرة العربية مكشوف كنخلة في الصحراء.. كرجل على ظهر جمل.
لكن هذا الوضوح لا يكون إلا تحت الشمس، أما بالليل فالحياة في الصحراء موحشة وغامضة وخطيرة، والمؤسف أن صحرائنا تعيش في ليل طويل، وكل ما أخشاه أن هذا الليل قد يغري المغرمين بهوس التحالفات بالتحول من عشائر إلى عصابات.
وأكتفي بهذا القدر من التحذير، ومن العتاب، ومن النبش في خزائن المسكوت عنه.