قضايا وآراء

قراءة في البلاغ الأخير لحركة النهضة

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
يوم 30 ماي 2017، أصدر مكتب الإعلام والاتصال بحركة النهضة  بلاغا "حول لقاء وفد من الحركة مع رئيس الجمهورية". وقد تساعدنا قراءة تحليلية لهذا البيان في فهم أعمق للعقل السياسي النهضوي في مرحلة "التوافق"، كما قد تساعدنا تلك القراءة على فهم منطق الجهاز الإعلامي المشرف على صناعة صورة معينة لحركة النهضة وتسويقها في الداخل والخارج.

السيد والشيخ والأستاذ

 جرت العادة في البلاغات التي تصدرها الأحزاب والجمعيات عن لقاءات قيادييها مع جهة ما، أن تفتتح الكلام بالإشارة إلى أولئك القياديين ثم تشفع ذلك بذكر الطرف المعني بالحدث (سواء أكان زيارة أم استقبالا). فتكون الصياغة مثلا كالآتي: استقبل فلان (القيادي) فلانا أو علانا..وزار فلان (القيادي) فلانا أو علانا. فالتركيز يكون على نشاط القيادي (أو القادة) مهما كانت قيمة الطرف المقابل، ولا تصاغ البيانات بصورة ملتبسة تجعل قارئها لا يعلم للوهلة الأولى الجهة التي أصدرته. فهل نجد ذلك في بيان "مكتب الإعلام والاتصال" بحركة النهضة؟

عندما تكون الجملة الأولى في البلاغ هي التالية: "استقبل السيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية...." فإنّ أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أن هذا البلاغ صادر من مصالح الرئاسة أو من جهة حكومية رسمية. وقد كان من المفروض في بلاغات الحركة أن يصاغ الخبر صياغة مختلفة كأن يقال: "زار وفد من حركة النهضة". ولا شك أن التقديم والتأخير في الذكر دال من جهة الأهمية ومن جهة التراتبية "السياسية". 

تكمن أهمية الصياغات اللغوية في أنها تعكس- إلى حد كبير- علاقات القوة في العالم الخارجي. فالبلاغ يعكس بمعنى من المعاني علاقات القوة داخل الحقل السياسي(وتحديدا علاقات القوة بين النهضة والتجمعيين الجدد). فالفاعل الرئيس في النص هو "الباجي قائد السبسي". إنه "السيد" الذي يهيمن على الفضاء النصي (وعلى عقل كاتبه)، مثلما هيمن على الفضاء الخارجي(وعقل التوافق). وهو الوحيد الذي تُسند له صفة "السيد" بينما أُسندت صفة "الشيخ" لراشد الغنوشي وأُسندت صفة "الأستاذ" لنورالدين البحيري وعبد الفتاح مورو (رغم أن البيان كان متذبذبا في صفة هذا الأخير، فهو أستاذ في أول البلاغ وشيخ في آخره). 

إذا كان البروتوكول يفرض تسييد رئيس الدولة، فإنه لا يمنع من تسييد ضيوفه. ولكنّ العقل"الموحّد" الذي كتب البلاغ لم يكن يستطيع أن يتخيل فضاءً تتعدد فيه مراكز "التسييد" حتى لو كانت تلك المراكز نهضوية. فالسيد واحد، وهو يتقاسم فضاء القصر وفضاء النص مع الشيخ والأستاذين (من باب التشريف لا من باب الواجب) ولكنه يظل هو المهيمن على الفضائين معًا. إنها هيمنة تبدأ من أول حرف بعد البسملة والعنوان وتمتد إلى آخر حرف في البلاغ ولا يبدو أنّ العقل الذي صاغ البيان يجد أي حرج في ذلك.

النهضويون "مواطنون كبقية التونسيين"

من الصعب على أي دارس منصف للشأن التونسي أن ينكر الحقيقة التالية: كان الإسلاميون دائما هم "الذبيخة المقدسة" أو "الشر المطلق" الذي احتاجت إليه سرديات "النمط" في مرحلتيها الدستورية والتجمعية لفرض أساطيرها التأسيسية وما وراءها من مصالح مادية ورمزية. وقد كان الغالب على جميع "سرديات النمط" بيسارها الثقافي و"يمينها البرجوازي" هو اختزال التعامل مع "الإسلاميين" في المقاربة الأمنية (باعتبارهم تهديدا "للنمط المجتمعي" و"للاستثناء التونسي") والاستعارة الطبية (باعتبارهم مرضى نفسانيين يعانون من عدم تأقلم مع فلسفة"الحداثة" و"أنوارها" و"نخبتها")، ولم يكن سقف هذا الإجماع "الحداثي" يتجاوز مستوى اعتبار الإسلاميين حالة حقوقية تستحق "التعاطف الانساني" و"النضال الحقوقي" سواء أكان ذلك من منطلق مبدئي أم كان في إطار تحسين شروط التفاوض مع السلطة. 

ولا يستطيع أحد أن ينكر أنّ الغالب على سياسات الدولة (وملحقاتها الوظيفية في المجتمع المدني) قبل الثورة هو اعتماد سياسة النبذ لكل ما يُشتم منه صفة "الإسلامية". ولذلك أُغلقت أغلب الجمعيات والنقابات والمؤسسات في وجوههم. وهي سياسة استمرت بعد الثورة وذلك عندما حوّلت "العائلة الديمقراطية" الصراع السياسي من منطق "الجميع ضد المنظومة الدستورية-التجمعية" إلى منطق "الديمقراطيين" (بمن فيهم أزلام التجمع ومعارضتهم الكرتونية) ضد الرجعية والظلامية (أي ضد النهضة والترويكا تحديدا). وهو خيار استراتيجي يمكننا أن نرى الآن آثاره الكارثية على مسار الانتقال الديمقراطي.

في هذا المناخ المعادي للنهضويين (ولعموم الإسلاميين) داخليا وخارجيا يأتي " الاعتراف" من "سيد النمط" نفسه: رئيس الجمهورية ورمز الحداثة ووريث البورقيبية، تلك البورقيبية التي احتلت (بفضل "قُطّاع الطرق" والمهووسين ب"النمط المجتمعي") منزلة  "الخطاب الكبير" المهيمن على سائر السرديات الكبرى بإسلاميها وقوميها ويساريّها. ولا شك في أنّ هذه الجملة "حمّالة أوجه" بل حمّالة حطب قد يستثمره البعض للبناء وقد يستغله آخرون لصنع عصيّ يتقاتلون بها.  

فنحن نستطيع أن نعتبر  وجود هذه الجملة في البلاغ "خطأ تواصليا" (لأن النهضويين ليسوا من "اليهود" التونسيين أو من "المنبوذين" الهنود أو من "البدون" الخليجيين حتى نعتبرهم "مواطنين" مثل البقية، وقد يكون الباجي وتجمعييه أحوج لتبرير أنفسهم والبحث عن اعتراف شعبي حقيقي في الجمهورية الثانية أكثر من احتياج النهضويين لذلك )، ولكننا نستطيع أيضا أن نعتبر الجملة مثار الجدل رسالةً مقصودة للداخل والخارج: إنها رسالة طمأنة للنهضويين بأنّ التوافق لم يبق خيارا تكتيكيا مؤقتا  بل أصبح خيارا استراتيجيا ثابتا، وهي رسالة  ل"كلاب الحراسة الإيديولوجية" الذين مازالوا يصرون على شيطنة النهضة (وتبييض الأزلام) بأنّ عليهم "الاعتراف" بالنهضويين مواطنين "مثلهم" لأنهم ليسوا "وجودا مؤقتا" أو وجودا قابل للاستئصال. وهي رسالة للخارج الذي مازالت بعض أطرافه المعادية للثورات العربية  (خاصة الإمارات والسعودية) مصرّة على إفشال التجربة التونسية والدفع بها نحو السيناريو المصري أو نحو الاحتراب الأهلي. 

سلطة السيد...وحدودها

بحكم الضغوط الخارجية والداخلية القوية التي قد تغري رئيس الجمهورية بفك اراتباطه البراغماتي بحركة النهضة، فإنّ  ثبات الباجي قائد  السبسي في وجه تلك الضغوط وإصراه على نهج "التوافق" هو بمثابة "الخلعة" الملكية التي أنعم بها "السيد" على بعض رعاياه من "المنبوذين". وإذا ما كان الباجي قد اعترف بأنّ النهضويين هم "مثل كل التونسيين"، فإنّ علينا ألاّ ننسى أنّ "التونسيين" في العقل السياسي البورقيبي هم موضوع السلطة ومادتها وليسوا شركاء فيها، خاصةً عندما ينحدرون من الدواخل والقواحل أو يُمثلون ساكنتها. وقد يكون من نافلة القول أن نذكّر بأنّ كل"نعمة" توجب الشكر(والشكر مؤذنٌ بالزيادة فيها)، ولا شيء أحبّ إلى قلب "السيد الرئيس" من تمرير مبادرته التشريعية للمصالحة الاقتصادية والمالية. وهو ما يحصر وجوه الشكر في وجه واحد: المساعدة في تمرير قانون المصالحة مهما كانت قوة المعارضة (ألم يدافع "السيد الرئيس" عن النهضويين أمام العالم رغم كره هذا العالم لهم أو على الأقل توجسه خيفة منهم؟).

عندما يُسند البلاغ الخطاب "للشيخ" (بعد أن أسكته ليتكلم "السيد")، فإن رئيس حركة النهضة يؤكد على أنّ التوافق مدين  "للسيد الرئيس" باعتباره "الداعي الأول إليه والضامن لاستمراره". إننا في محضر هيمنة خفية للاستعارة الرعوية–شخصنة المسارات السياسية وربطها بأفراد لا بإرادة جماعية- ممّا استوجب إلتفاتة إلى الجملة السياسة لعهد المخلوع، ف"ثمّن"  الشيخ هذا المعطى بالإضافة إلى "تثمين"  دعم الرئيس للحملة على الفساد. 

يبدو "السيد" في هذا البلاغ مسيطرا بصفة مطلقة على المسار التوافقي (وهو ما يعني مديونية النهضويين لسيد النمط المجتمعي الذي اعترف بمواطنيتهم رغم كثرة الضغوط والإغراءات الداخلية والخارجية)، ولكنّ تلك السيطرة-أو الرغبة في تعليم المجال السلطوي MARQUAGE DU TERRITOIRE  - تضعف قليلا عندما يتعلق الأمر بمحاربة الفساد أو بقانون "المصالحة". ف"السيد الرئيس" ليس هو من يقف وراء حملة على الفساد بل هو فقط "يدعمها" وهي "تجري بعلمه ومشورته". إنه لا يتبرّأ منها بل يدعم حكومته في تلك الحملة، ولكنه لا ينسبها إليه على عكس مبادرته التشريعية المتعلقة ب"المصالحة". ولكنّ وقوف" السيد الرئيس" وراء قانون المصالحة ونسبته إليه لم يضمنا له تمريره أمام مجلس النواب. وهو ما يحتاج إلى دعم النهضة وكتلتها البرلمانية.

مشروع المصالحة مقابل التوافق أم مقابل المواطنة؟ 

نظرا لارتفاع سقف الرهانات السياسية المتصلة بقانون المصالحة وحيويته بالنسبة للمستقبل السياسي "للسيد الرئيس" وفريقه، فإننا نذهب إلى أنّ "التوافق" و"الحملة على الفساد" لم يكونا في هذه المقابلة مقصودين لذاتيهما، بل حضرا بالتبعية للقصد الأول ألا وهو "مشروع المصالحة". فمشروع المصالحة يبدو متناقضا مع الحملة على الفساد(ولذلك حرص الرئيس على نفي ذلك) كما أن مشروع المصالحة محتاج إلى النهضة(ولذلك حرص الرئيس على تذكيرهم بمديونيتهم تجاهه، فهو الذي نقلهم من وضع "المجرم" و"المريض" في المقاربات السابقة-وفي مقاربات اليسار الثقافي حاليا- إلى وضع"المواطن" زمن التوافق).

إنّ هذا "الدّين" في عالم السياسة يستوجب السداد، وقد حدد "السيد" نوع السداد وميقاته وموضعه: تمرير القانون في المجلس النيابي مع "تكرّمه" بقبول التعديلات التي قد يدخلها النواب عليه. ولكنّ إرادة "السيد" تجد نفسها هنا في موضع تعارض (جزئي في ظاهره وجوهري في باطنه) مع إرادة "الشيخين" النهضويين(الشيخ راشد والأستاذ مورو بعد أن أعاد له البيان صفة الشيخ). فرئيس الحركة يذكر من طرف خفي بسلطة المؤسسات في النهضة (وقد رفض مجلس شوراها هذا المشروع)، كما يذكّر بعلوية الدستور ومرجعية قانون العدالة الانتقالية. أما نائب رئيس الحركة، فبدا  أكثر براغماتية (رغم خلفيته الحقوقية) إذ لمّح إلى صعوبة وفاء النهضة بدينها الآن نظرا إلى أنّ "الأجواء العامة ليست لصالح المشروع".

في خاتمة البلاغ، لا ينسى من كتبه أن يجُبّ اعتراضات "الشيخين" راشد وعبد الفتاح بإعادة الكلام إلى "السيد رئيس الجمهورية". فهو "منفتح" على كل المقترحات وهو "في انتظارها" لتعديل المشروع رغم  تصريحه يوم 10/5/2017 بقصر المؤتمرات أنه  لن يسحب المشروع مرة أخرى، مما يعني أنّ المبادرة التشريعية قد خرجت نهائيا من مؤسسة الرئاسة وصارت بيد النواب الندائيين وحلفائهم. ولا شك في أنّ ما جوبه به مشروع المصالحة من معارضة شعبية ومدنية وسياسية كبيرة، يجعل الباجي محتاجا إلى دعم حركة النهضة وكتلتها النيابية بصورة لا لبس فيها. 

ومن المرجح أن يكون سكوت رئيس كتلة النهضة نورالدين البحيري (أو بالأحرى إسكاته) خيارا متعمدا من لدن العقل السياسي الذي صاغ  البلاغ. فصمت رئيس الكتلة قد يعني أنّ "نطق" كتلته بما يرضي "السيد" مشروط برفع الاحترازات الواردة في كلام شيخي النهضة (التوافق مع الدستور ومع قانون العدالة الانتقالية ووجود مناخ عام غير معارض للمشروع) ولكنه قد يعني ضربا من واجب التحفظ نظرا إلى المشاكل التي قد يثيرها موقف "نهائي" من قانون المصالحة، سواء أكانت تلك المشاكل مع الحليف الندائي أم كانت داخل البيت النهضوي نفسه...وتلك قضية أخرى.
1
التعليقات (1)
أبوجعفر العويني
الأحد، 04-06-2017 01:47 ص
بصراحة من رضي لنفسه أن يكون ذيلا و مؤيدا في كل الحالات من غير الإنصات لقواعده و لرغبة الغالبية من الرأي العام فسيقبل كلّ ما يملى عليه و سيبقى ذيلا و سيخسر مستقبلا قاعدته الشعبية.

خبر عاجل