(1)
لا تصدقوا كلامي، لأنني كتبت عن أمنيات كثيرة ولم يتحقق منها شيء، لا تصدقوا كلامي، لكن أرجوكم أن تصدقوا الأمنيات التي نلف وندور حولها جميعا.. أن نعيش معا في أوطان حرة.. أن نعرف في بلداننا التعيسة لون الفرح، ونتذوق طعم العدل، ولا ندفع من كرامتنا ثمن اشتياقنا للكرامة.. أن نفكر كأمة ونحلم كأمة، ونكتفي بهذا القدر من الأشلاء، ومن التنافر، ومن التناحر، ومن التلذذ بالتبعية للآخر، طالما أنه ليس منا، وطالما أنه يحتقر رؤوسنا.. ويمدح أجمل ما فينا (أحذيتنا)... آي لاف يور شوز بوي.
(2)
هذا المقال تافه، يدور حول معان مسطحة، ويخلو من القيمة السياسية الرصينة، ومن الرسالة المؤثرة في الجماهير. والكاتب جاهل يبيع لنا كلمات فاسدة لا يملك غيرها. وربما المنصة نفسها مأجورة وخبيثة وشريكة في المؤامرة الكونية ضد ... (مش عارف ضد مين)، فكل قارئ يختلف في تعليقه عن الآخر حسب الجهة التي يناصرها، ويرى كل ما عداها عملاء ومخربين ومتآمرين.
(3)
تعودت على مثل هذه الشتائم في صناديق تعليق القراء، وكتبت مدفوعا بالأمنيات عن ضرورة بناء جسور للتواصل بين الفرقاء، لكي نتمكن من إدارة الشأن العام في بلداننا المنكوية بالتمزق، لكن الأمنية ظلت وراء السور المنيع، بل زادت حدة الاختلافات لدرجة ان أصحاب الفكرة الواحدة صاروا يختلفون لمجرد تعودهم على الاختلاف، وحسبما قلت لأحدهم قبل أسابيع: انتبه يا صديقي فأنت تتفق معي في كل ما أقول، لكن تسمي "اتفاقنا" اختلاف لأمر ما في نفسك، ربما لأنك تريد أن تكون وحدك، وتخاف أن تشبه أحدا غيرك.
(4)
يومها غضب الصديق، متصورا أنني ألمح إلى إصابته بمتلازمة نفسية ما، لكنني أوضحت له، أن النزوع إلى الاختلاف والتمايز عن الآخرين، هو نزوع طبيعي ينتشر في فترات الهزيمة والانكسار، لأن الفرد الذي يحتفظ بقدر من العقل ومن الضمير، يريد أن يصرخ في وجه العالم متبرئا من المهزومين: "أنا مش معاهم"... أنا مختلف.. أنا أفضل من هؤلاء السيئين، وهذه الزاوية النفسية التي استخدمها نجوم الكوميديا في أفلامهم، سبقنا إليها الباحث الفرنسي جيل كيبل في تحليله لظاهرة المد الأصولي وانتشار تيارات الاسلام السياسي في السبعينات، فقد رأى "كيبل" أن تأثيرات نكسة 67 هزت العرب، والمصريين على وجه الخصوص، من أعماقهم، فبادروا بالتنصل من النظام المهزوم، ومن المجتمع الذي تقبل هذه الهزيمة، وكان "المظهر" أحد ابرز العوامل التي اعتمد عليها الرافضون للهزيمة، لكنهم بدلا من التقدم إلى الأمام، اتخذوا مسارا عكسيا للزمن، وانسحبوا باتجاه ملجأ الماضي، الذي يحقق لهم قدرا من الأمان والمعرفة السلفية (اللي تعرفه أحسن من المستقبل المجهول).
(5)
استمعت إلى تحليل جيل كيبل قبل سنوات طويلة في مركز الوثائق الفرنسي بالقاهرة، ولم أقتنع به كتحليل متكامل يتصدى لتفسير ظاهرة المد الإسلامي في المجتمعات العربية المعاصرة، لكنني لم أستطع تجاهله، فهو يرتبط بانفجار ظاهرة الشكل ومجتمعات الاستعراض والفرجة والكرنفال، وبروز عوامل المحاكاة والأدائية (البيرفورمانس) حيث تتحول ساحات السياسة إلى ما يشبه "المسارح" بكل عناصرها الفنية، وبالتالي فإن العقل لابد وأن يتراجع وسط صخب الكرنفالات، وتتراجع معه الثقافة والتحليلات التاريخية العميقة، لصالح فنون الإعلان السريع، وإلحاح الإعلام التكراري، وسطوة الشعارات (السلوجانز) على السرديات المتعمقة، والرؤى الفلسفية، وفي ظل هذا التغير المذهل الذي انتهى إلى ما أسميه "جاهلية ما بعد الحداثة"، يصبح الحديث عن "اليقين" نوعا من العبث، لأن الحياة فقدت مسارها نحو هدف ما.. توقفت في ساحة تعج بمختلف الألوان والأصوات، والكل لا يرغب في شيء إلى المشاركة في الكرنفال: يصرخ بجملة ملفتة، ويرتدي أزياء غريبة، ويبذل كل المحاولات لجذب الآخر، ليس لكي يمضي معه نحو هدف ما، وليس حتى لكي يقلده ويشبهه، بل لكي يدفعه للتفرج عليه، ويثبت له أنه صاحب دور يستحق الفرجة.
(6)
هذا الكلام الفارغ، شغلني ليلة كاملة وأنا أفكر متأملا "فنون الأداء" التي تقدمها الحركات السياسية، ويقدمها الأفراد، ويقدمها الإعلام استعدادا للانتخابات الرئاسية في مصر، كرنفال صاخب من دون أي اهتمام بالهدف، بل أن الهدف هو آخر ما يفكر فيه "الممثلون"، "المتنافسون"، "المتظاهرون" على خشبة المسرح، لا فرق بين من يسارع بالاستعداد في المشاركة، وبين من يقدم عرض "الامتناع".. الكل يقدم "اسكتشات" و"كليبات" و"صيحات" مقطوعة الصلة بعضها، فليس هناك سيناريو، وليس هناك أدوار موزعة حسب ذلك السيناريو، لكنه حضور الباعة في السوق، كل ينادي على بضاعته بطريقته.. كل بائع ينافس زميله، حتى لو لم يكن هناك زبائن، ولو لم تكن هناك سلعة حقيقية يسعى لبيعها، ومما أدهشني في هذا الكرنفال أن يتفق خصوم السيسي على خطورته وضروة إسقاطه، بينما يختلفون في تسمية العملية: هل هي إسقاط عبد الفتاح، أم "إسقاط عبده"، وتتعدد الاختلافات بتعدد الأسماء التي يتبناه كل فريق للشخص الواحد ولتوصيف سياساته، هكذا يستمر "العرض".. كلام وإعلانات و"إفيهات" ومغازلة للجمهور، بينما يغيب المضمون، حتى أن القطاع الأغلب من أنصار التيار الإسلامي لم يفكروا في "امنية" إسقاط السيسي، عبر تصنيع مشاركة شعبية واسعة تحرجه في الانتخابات، وتثير الكوامن المتربصة داخل المجتمع وداخل الدولة العميقة نفسها، لكنهم يحجمون عن المشاركة، وينفقون الكثير من الجهد والصوت في إثبات أن الانتخابات "تمثيلية"، مع أن المرحلة كلها ليست إلا "تمثيلية"، ومثل مسلسلات رمضان فإن المنافسة بين "الممثلين" ليست لتقديم فعل جديد، بل المنافسة في تقديم نفس اللعبة، لأننا لو فكرنا في هدف ما وراء ذلك، فأظن أن هدف إسقاط "نظام الفساد" كاف لإقناع الفرقاء بالتفكير في الاقتراب والتنسيق، وليس في استمرار الخلاف، واستمرار لغة الخصام والتنابذ، والحديث عن "تمثيلية" و"كومباس" و"شكلية" و"كرتونية" وتقديم "فرجة" لإقناع العالم الخارجي بأن في مصر ديموقراطية، لكن ما هي المشكلة الحقيقة في ذلك؟، وما هي المخاطر الحقيقية إذا اعترفنا بأن كل ذلك موجود؟
(7)
أظن أن بريخت قدم إجابة مبكرة عن ذلك "الوهم التمثيلي"، عندما أدخل إلى المسرح مفهوم "كسر التوهم"، وهو "أداء" يستخدم "الوعي الواقعي" لتفجير المفارقة مع "الوعي التمثيلي"، وباختصار.. لا يمكنك تغيير الواقع من خارجه، ولا يمكنك تسول "حافظة نقودك" من اللص الذي سطا عليها، ولا يمكنك تأجيل الانتخابات حتى يتعهد لك "نظام الفساد والتزوير" بإجراء انتخابات نزيهة تطيح به من السلطة، فإذا لم تكن قادرا على انتزاع حريتك من الديكتاتور فأنت لاتستحقها، وإذا لم تكن قادرا على حماية صوتك من التزوير فالزم الصمت، حتى تتعلم أن تتكلم وأن تصنع بكلماتك واقعا تريده، لكن حتى يأتي دورك في الفعل تسلح بآخر ذرة لياقة، واعترف بضعفك، ولا تعرقل من يسعى لتحقيق أمنياته وأمنياتك.
(بعد الستار)
إذا كنت تبحث عن دور على المسرح، فالكومبارس خير لك من الجلوس في مقاعد المتفرجين.