هل أصبح التعصب مشكلة مصرية؟ هذا السؤال نبهتني إليه بعض الكتابات والتعليقات التي حفلت بها الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الثلاثة الماضية، في أعقاب قتل الإرهابيين لنحو ثلاثين قبطيا في صحراء محافظة المنيا. ورغم أنني وعدت أمس بمحاولة الإجابة عن سؤال آخر هو: هل قصرنا في علاج مشكلة الإرهاب أم إننا أخطأنا في تشخيص المشكلة؟ إلا أنني فضلت أن أبدأ بالسؤال الأول، لاقتناعي بأن طرحه يمثل مدخلا للإجابة عن السؤال الثاني، الأهم والأكبر.
وجدت في الكتابات التي حاولت أن تثبت انتشار التعصب بين المصريين استشهادا بمعاناة بعض الأقباط في مواقع العمل أو الدراسة أو في المجال العام، وإحالات إلى آراء تضمنتها بعض كتب التراث حطَّت من قدر الأقباط وشكلت إساءة لحقوقهم وكراماتهم، وهي المادة التي أصبحت تشكل مرجعية لعمليات استهدافهم في الوقت الراهن. ولست أشكك في صدقية أو مرجعية تلك الشهادات، لكنها تثير عندي سؤالا كبيرا هو: لماذا في هذه المرحلة بالذات تبرز الممارسات السيئة بين بعض الأفراد، ولماذا تستحضر من كتب التراث الموجودة منذ مئات السنين تلك الفتاوى والآراء التي تشكل إهانة لهم ونيلا من حقوقهم وكراماتهم؟ لماذا يسقط من الذاكرة فيض علاقات المودة والتراحم التي عاش المصريون بمسلميهم وأقباطهم في ظلها طويلا، ولماذا ينحَّى جانبا التراث الوفير والتعاليم الأصيلة والاجتهادات المضيئة التي تحدثت عن حق الكرامة لكل البشر، وحق المودة والمحبة للمسيحيين خاصة، بحيث تسلط الأضواء فقط على كل ما هو سلبي ومسيء؟
إن تراث المسلمين وغير المسلمين حافل بما هو منير ومشين، لكنه يتعرض للانتقاء والتأويل في ظروف تاريخية معينة، بحيث تدفن أو يستخرج منها ما هو منير تارة في حين يستدعى منها ما هو مشين تارة أخرى. وتكون المشكلة دائما أن أصابع الاتهام تشير إلى الضحايا وإلى المرجع الفكرى الذى جرى الاستناد إليه وتأويله، وليس إلى الظرف التاريخي الذى استدعى هذه المرجعية أو تلك. وأستأذن هنا فى تكرار ما سبق أن أشرت إليه، من أن ثمة ظروفا اجتماعية وسياسية تستخرج من الناس أفضل ما فيهم، لكنها حين تتغير في طور آخر، فإنها تستخلص من الناس أنفسهم أسوأ ما فيهم. ولا مجال لاستعادة شواهد التاريخ الدالة على ذلك، لكني أذكر فقط بحالة الإجماع والتلاحم الوطني المبهر التي شهدناها في مصر في أثناء ثورة 25 يناير 2011، وأدعو إلى مقارنتها بحالة الانفراط والنفور والاحتقان المحزن التي خيمت على البلد منذ 30 يونيو 2013.
في الإجابة عن السؤال الأساسي الذي يتحرى مصدر الخلل في التعامل مع الإرهاب، لا أجادل في أن الدور الأمني لا مفر منه شريطة أن يظل في حدود القانون والقضاء العادل، ثم إنه لا غضاضة في أية إجراءات أخرى تحاصر الإرهاب وتلاحق مظانه إذا ما تمت تحت رقابة القضاء، لكننا نغفل كثيرا دور البيئة السياسية والاجتماعية التي تشكل عماد الظروف، التي أشرت إليها في الحث على الاعتدال أو تشجيع التطرف والإرهاب. أفتح هنا قوسا لأذكر بأنه ليس لديَّ دفاع عن جرم ارتكبه أي طرف. كما أنني أدعو إلى محاسبة كل من خالف القانون أمام القضاء العادل، مع الحفاظ على كرامة وإنسانية الجميع. أقفل القوس من فضلك.
إن القيود التي تفرض على الحريات العامة، والانتهاكات التي تتم لحقوق الإنسان، لا تلغي قيمة التسامح فقط، وإنما تلقن المجتمع أيضا دروسا في البطش والعنف، ناهيك عن أنها تفرغ مفهوم «المواطنة» من مضمونه، حيث لا قيمة للمواطن إذا ما صودرت حريته وانتهكت كرامته سواء في قسم الشرطة أو في أي مستشفى عمومي، ثم إن غياب العدل الاجتماعي وقسوة الغلاء المتزايد وانسداد أفق المستقبل أمام شرائح واسعة من الفقراء أو الذين تم إفقارهم، هذه كلها بيئة مواتية لنمو أشكال التطرف والعنف تمهد الطريق أمام الإرهاب، وتلك عوامل مسكوت عليها في مناقشات قضية الإرهاب الجارية.
إن بعض زملائنا تحدثوا عن البيئة الحاضنة للإرهاب، لكنهم سكتوا على البيئة المنتجة للإرهاب، على الرغم من أن الأخيرة أهم وأخطر بكثير من الأولى، لكن مشكلة أغلب المعلقين والسياسيين أنهم يمارسون الجرأة المجانية في التنديد بالبيئة الحاضنة، ولهم في ذلك بعض الحق، لكنهم لأسباب تتعلق بالكلفة الباهظة، يغضون الطرف عن البيئة المنتجة للإرهاب التي هي الأحوج إلى كلمة الحق.