ترافق انتقال الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض بطلب إدارته الجديدة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2009، بينما لم يفعل الرئيس ترامب شيئا للأسرى المضربين، محدثا فرقا كبيرا بوجود فرق كبير من نوع آخر، فقد عقدت على شرف الرئيس ترامب ثلاث قمم سعودية وخليجية وعربية إسلامية، كانت زاخرة بالعطاء وبأقصى أشكال الحفاوة والتعاون.
رغم ذلك لم يضغط الرئيس الضيف أو لم يرجُ حكومة نتنياهو كي تستجيب لمطالب الأسرى المضربين لليوم الـ36 على التوالي، تلك المطالب الإنسانية جدا، واللا سياسية جدا، والمتواضعة جدا، لم يخطُ خطوة رمزية من شأنها تبديد الاحتقان والغليان الشعبي الفلسطيني الذي يقترب من الانفجار، والتي من شأنها المحافظة على ماء وجه المؤتمرين في الجهة الأخرى.
هذا الرهان المقارن بين رئيسين أميركيين قدم أداة قياس لقدرة ورغبة الرئيس الجديد في التعامل مع قضايا التفاوض الفلسطينية الإسرائيلية وبخاصة القدس والاستيطان. والاستنتاج الذي لا يحتاج إلى عناء تفكير يتبدى في غياب مقومات نجاح الصفقة الموعودة للحل الذي تحدث عنه ترامب وسوقه عربيا وفلسطينيا.
قليلة هي المؤشرات الإيجابية التي يسوقها المراهنون على وعود ترامب وقدراته في إحداث الاختراق المطلوب. كتأجيل نقل السفارة الأميركية والتزام متوالية التأجيل كل 6 شهور خلافا للوعود الانتخابية، وتراجع حكومة نتنياهو عن ضم أجزاء من المنطقة سي، وتقديم تسهيلات كالسماح للمواطنين بالبناء في منطقة سي، وإقامة منطقة صناعية في ترقوميا - الخليل، وأخرى في الجلمة –جنين، وزيادة ساعات العمل في معبر الكرامة. ويلاحظ أن الإيجاب يتوزع على وقف أو إبطاء الاندفاع الإسرائيلي نحو الضم والحسم الذي أعد لما بعد فوز ترامب واستند إلى حملته الانتخابية، وتحسين شروط المعيشة والحركة بعض الشيء، لكنه يقفز عن قضية الأسرى وبخاصة المضربين الذين أصبحت حياتهم في خطر.
والاهم فإن الإيجاب الهزيل منسوبا للنهب والغطرسة والقمع والإذلال والتجويع والخنق، لا يقترب من جوهر الصراع وهو وقف الاستيطان المؤجل البحث فيه لمبادرة ترامب، التي سقفها وقف الاستيطان خارج الكتل الكبيرة بما في ذلك مدينة القدس، وهذا من شأنه تعزيز المطامع الإسرائيلية في الضم والسيطرة على الموارد عبر الاستيطان المتمركز غرب جدار الفصل العنصري والمنتشر شرق الجدار، وكلاهما يقوض مقومات الدولة الفلسطينية ويحولانها إلى مجموعة من البنتوستونات المنفصلة عن بعضها البعض في إطار الهيمنة الاستعمارية.
وفوق كل ذلك فإن الوقف الجزئي للاستيطان له ثمن باهظ وخطير، هو التطبيع العربي الرسمي مع دولة الاحتلال، الذي يعني تراجع وتعويم هدف إنهاء الاحتلال إلى الهامش وتقديم التطبيع والتعاون العربي الإسرائيلي بدعوى مواجهة إرهاب (داعش والقاعدة وأخواتهما) أولا، وفي مواجهة النفوذ والتهديد الإيراني ثانيا. ولا يغير من واقع التوافق الإسرائيلي - العربي الإقليمي، الذي تحاول إدارة ترامب إنضاجه وإخراجه للعلن، كل الخطابات العربية التي تحدثت عن أهمية إيجاد حل للقضية الفلسطينية وعن أهمية دعم الشعب الفلسطيني، لكنها لم تطالب صراحة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي فورا وبدون تلكؤ. فلا يستقيم دعم الشعب الفلسطيني والالتزام النظري بحقوقه مع التراجع عن هدف إنهاء الاحتلال كأولوية، ومع ترجمة حقه في تقرير مصيره على الأرض الفلسطينية بما في ذلك إقامة دولته المستقلة.
تتحدث التقارير الإسرائيلية عن بلورة اتفاق إطار أولا، يتبعه عقد قمة تضم زعماء عرب وإسرائيل. المقصود باتفاق الإطار إعادة اختراع العجلة، فقد سبق وأن وضع ذلك الإطار، في كامب ديفيد، وطابا، وفي خارطة الطريق التي رعتها الرباعية الدولية وحددت جدولا زمنيا لتنفيذها، ووضعت تطبيقات للإطار في اتفاق أولمرت أبو مازن. وقبل كل ذلك فإن مبادئ حل الصراع متضمنة في قرارات الأمم المتحدة.
لكن فشل اتفاقات الإطار المتعددة وفشل تطبيقاتها كان من صنع دولة الاحتلال التي حولت حل الصراع إلى شيفرة لا تستطيع أي جهة فك طلاسمها، لأن رموزها موجودة فقط عند المخترع الأول الإسرائيلي وصاحبه الأميركي. هاتان الدولتان لا تريدان فك الشيفرة وتتحدثان في كل مرة عن بداية صفرية وعن أهمية وجود اتفاق إطار، ويحملان الضحية مسؤولية فشل المساعي.
وواقع الحال انهما لا تريدان منفردتين ومجتمعتين إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، موقف ينسجم مع سياسات الدول الكولونيالية في التاريخ القديم والحديث، فلم يسبق وان تراجع الاستعمار عن أرباحه ومكاسبه طوعا. كل التراجعات الاستعمارية السابقة جاءت بفعل تحول الاستعمار إلى قضية خاسرة، وبفعل أزماته وتناقضاته الداخلية. فلماذا تتراجع الولايات المتحدة وهي تحصد مئات المليارات فضلا عن الامتيازات الأُخرى. ولماذا تتراجع إسرائيل وهي الدولة المدللة التي لا تتعرض لعقوبات وضغوط مقابل غطرستها واعتداءاتها وانتهاكاتها وحسب، بل تأتيها المكافآت والعروض والدفوعات التشجيعية تحت الحساب.
لم يحلم نتنياهو بالتراجع عن استعمار واضطهاد ونهب الشعب الفلسطيني، لكنه يحلم بركوب الطائرة من تل أبيب إلى الرياض فورا، كما فعلها ترامب بالمجيء المباشر ولأول مرة من الرياض إلى تل أبيب.
هل فوتت الدول العربية فرصة مقايضة المصالح الأميركية الحيوية بصفقة تتضمن بند إنهاء الاحتلال الإسرائيلي والسيطرة على الشعب الفلسطيني إلى جانب البنود الخاصة بالمصالح الخليجية والعربية في الاتفاقات المبرمة؟
يجوز القول أن بند إنهاء الاحتلال جرى تعويمه، وبقي تحت رحمة نتنياهو الذي يواصل دحرجة البحث عن تسوية لأطول فترة ممكنة، لأن هدفه البقاء في الحكم أطول مدة، ويخشى إغضاب أقطاب ائتلافه من المستوطنين المتطرفين وانفراط الائتلاف العتيد المكون لحكومته. لا يستطيع نتنياهو قبول الحد الأدنى الذي يمكن لأي زعيم فلسطيني القبول به كما تقول التقارير الإسرائيلية. وهذا يعني إعادة إدارة الصراع وبقاء الأوضاع على حالها في احسن الأحوال.
إن محاولات إعادة إطلاق عملية سياسية على قاعدة ما يسمى وثيقة إطار وإجراءات تنفيس اقتصادية ووقف جزئي للاستيطان خارج الكتل، هذه المحاولات ما هي إلا وصفة سحرية لإنتاج الفشل والإحباط والمعاناة. وإذا كان نتنياهو وأركان حكمه لا يريدون الحل الذي يضع نهاية للاحتلال، فإن ذلك لا يبرر الدخول في عملية سياسية بالاستناد إلى قواعد اللعبة السابقة بل أسوأ منها، ولا يوجد مستجدات تسمح بتغييرها. وتبقى مهمة إعادة بناء العامل الفلسطيني الداخلي هي المدخل لأي تغيير، فإذا لم يتغيروا علينا أن نتغير، والتغير لا يعني التكيف.