يقولون أن التاريخ لا يكرر نفسه، قد يكون ذلك صحيحا بشكل أو بآخر لكن في نهاية أي أمر من أمور التاريخ فإنه واقع وحال يجري على أرض البشر، وقديما قالوا وفي تساؤل لا يخلو من طرافة: التاريخ يصنع البشر أم البشر يصنعون التاريخ؟ دعونا نتجاوز كل ذلك لنصل إلى أن التاريخ هو بالفعل معمل التجارب السياسية بل والإنسانية في ما هو أشمل وأوسع.
وتجربة الحكم والسلطة في مصر الحديثة من بعد خروج نابليون (أحد أكبر أكاذيب الحضارة الغربية) تستدعى منا توقفا واهتماما فى هذا المعنى، ذلك أنها لحظة أسست كثيرا لما بعدها في مجال الفعل التاريخي، خاصة فيما يتعلق بأهم مؤسستين في مصر الشعب ومصر السلطة (المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية).
سيقول التاريخ لنا حكايات كثيرة عن علاقة محمد على(1769-1849) (الحاكم ورمز المؤسسة العسكرية) ونقيب الأشراف عمر مكرم (1750-1822) (العالم ورمز المؤسسة الدينية) كانت الحتمية التاريخية على رأى أصدقائنا اليساريين تطير فوق رؤوس الجميع، فكانت لحظه صدام حتمية فعلا بكل ما تعنيه الكلمة وهو الصدام الذي انتهى بانفراد محمد على بالسلطة انفرادا كاملا، وخروج القيادة الشعبية من السلطة خروجا كاملا، ذلك أنه كان قد صعد على مسرح الأحداث بعد طرد نابليون (بطل كبير) اسمه المقاومة الشعبية، والذي بدا أنه استشعر معنى الحرية والانتصار والقدرة على الفعل والتغيير، وكان طبيعيا أن تكون قيادة هذه المقاومة في السياسة والحكم كما هي في القتال والمقاومة (هكذا كان ديجول حين دخلت قوات هتلر إلى الشانزليزية) الحاصل أن القيادة امتدت واستمرت للعلماء ورؤساء الحرف والمهن ونقابة الأشراف وانتظم الشعب كله تقريبا في حركه واضحة و تيار منظم. وفكرت هذه القيادة في اختيار حاكم جديد للبلاد يتناسب والمستقبل الذي جاء من رحم ماضي مليء بالشرف والتضحية والنضال، وجاءت الفرصة حينما ضاق المصريون ذرعاً بحكم خورشيد باشا الوالي على مصر من قبل السلطان العثماني والذي تقدموا إليه بطلب تولية محمد علي عليهم 1805م بدلا من ذلك الرجل القوقازي، وتوجه عمر مكرم نقيب الأشراف وعبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر إلى محمد علي وألبساه لباس الولاية وأخذوا عليه عهدا ألا يفعل شيئا دون الرجوع إليهم وهوما قبله محمد على وإن على مضض.
وجرت تحت الجسور مياه كثيرة إلى أن جاءت (لحظه الصدام الحتمية) ذلك أن محمد على أراد فرض ضرائب جديدة في البلاد ,فقد كانت مشكلة تمويل مشروعات الجيش أحد أكبر المشاكل التي واجهته، فاجتمع العلماء في بيت عمر مكرم وكتبوا إلى محمد على بضرورة إلغاء هذه الضرائب لما فيها من إرهاق على كاهل الناس وكان العلماء قد تعاهدوا بينهم على توحد الكلمة وترك المنافسة فيما بينهم ومواجهه الوالي بصلابة تجعله يحترم الشعب وقيادته وأرسل إليهم محمد على يطلب لقائهم فرفضوا وأصروا على عدم لقائه إلا بعد رفع الضرائب.
لم تكن العلاقة بين العلماء بعضهم بعضا كما ينبغي أن تكون، وخفايا النفس الإنسانية عجيبة والتنافس والحسد أكثر ما يكون بين العلماء كما يقولون إلا في حالات السمو والتعالي على طين الأرض القابع في أعماق البشر يجذبهم إليه جذبا، وفى مرحله انتقالية مهمة كتلك المرحلة كان يفترض أن الحس التاريخي بالصالح العام يغلب على الصالح الخاص، وهم في الأصل ضمير الأمة ووجدانها ولسانها الناطق ويدها النافذة وخشبة خلاصها والتناقض يكمن ها هنا، وإذ يقولون أن النعماء والحسد لا يفترقان فقد كان عمر مكرم من أهل النعم الكثيرة ذلك أنه كان من الأشراف والعلماء والأثرياء وله حضور قوي وكلمه مسموعة لدى عموم الشعب وكان ذلك مصدر قوته. الباشا توقع أن من له هذه الصفات لابد وان يكون له جيش من الحساد، ولم يطل بحثه عنهم فلقيهم ولاقوه وعرفهم وعرفوه، وكانوا للأسف الشديد من كبار العلماء(الشيخ المهدي) و (الشيخ الدواخلي) وكانا بالفعل يكرهان عمر مكرم، وكيمياء الحب والكره لها في السياسة والتاريخ ألف حكاية وحكاية وألف حزن وحزن ,فأرسل إليهم محمد على أحد رجاله الذي استطاع بسهوله أن يستميلهما فذهبا بدون عمر مكرم لمقابله محمد على الذي بالغ في التلطف بهما وحسن معاملتهما وضمهما إليه وقال لهما: أنا لا أرد شفاعتكما ولا أقطع رجاءكما والواجب عليكما إذا رأيتما منى انحرافا أن تنصحوني وترشدوني أما عمر مكرم فهو في كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوفني بالعامة، فقال له(الشيخ المهدي): هو ليس إلا بنا وإذا خلا عنا فلا يساوى شيئا وقد كان، ودبت (الحالقه) بينهم كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حلق الدين لا الشعر وهي (فساد ذات البين) وتركهم محمد على يغالبون بعضهم البعض وتحين الحين وتخير الوقت وقد كان عبقريا في انتهاز اللحظة السانحة، فعزل عمر مكرم ومنح الشيخ المهدي مخصصاته ووظائفه ونفاه إلى دمياط وخوفا من جماهيريته وشعبيته بين الناس جمع العلماء(وليس محمد على!!) توقيعات مشايخ الأزهر يطلبون فيها نفي عمر مكرم إلى تركيا.
وبهذه الخطوة شديدة الخطورة في كل تاريخ مصر الحديث استطاع محمد على القضاء على المشاركة الشعبية قضاء تاما وأسست لحظه الصدام هذه للحكم السلطاني المتعالي على أي محاسبه أو مساءلة بل تكاد تكون تجربه محمد على في الاستفراد بالسلطة تجربه مكرورة، تعتمد على(الغل) و(الحسد) بين النخبة والقادة وزعماء الناس فيفرق المستبد كلمتهم ويكسر شوكتهم ويفت في ساعدهم.
كل ما جاء بعد لحظة الانقضاض على عمر مكرم كان طبيعيا وعاديا ويسهل على الطفل في بطن أمه توقعه، فلم يطق محمد علي وجود زعماء شعبيين من حوله يراقبون أعماله ويحدون من استئثاره بالسلطة والحكم.
واستفرد بالعلماء واحدا تلو الأخر فنكل بالشيخ المهدي نفسه والشيخ الشرقاوي والشيخ السادات الذي تولى نقابة الأشراف بعد عمر مكرم والشيخ الدواخلي الذي جاء بعده، واعمل في الجميع يده الباطشة فصادر أموالهم وممتلكاتهم وتعمد إهانتهم علانية حتى يقلل من هيبتهم لدى الجمهور فلا تكون لهم كلمه مسموعة. وللطغاة ألف طريقة وطريقة في تدنيس ما هو نقى وجر ما هو راقي إلى الوحول.
ستقول لنا الحكايات أن كل ما فعله محمد على في الأزهر والعلماء، فعله البكباشي ج.ح.عبد الناصر مع الأزهر والعلماء، إسلاميين أم ليبراليين كلهم أكلوا في بعض عضا ونهشا، ثم أكلهم هو في أخر الجولة ثم أكله الدود في أخر الحكاية لم يتعظ العلماء والنخب السياسية والفكرية من تجربة عمر مكرم والدواخلي والمهدي والسادات والشرقاوي، خانوا بعض في بلاط البكباشي، فخانتهم الكرامة، كما قال أمير الشعراء شوقي على لسان سليمان الحكيم للحمامة الخائنة.
فأجاب بل جئت الذي كادت تقوم له القيامة
لكن كفاك عُقُوْبة من خان خانته الكرامة