ما حدث في فلسطين في العام 1948 سمّي نكبة لأنه أقام كيانا صهيونيا أحلّ مستوطنين يهودا صهاينة فيها كانوا قدموا إلى فلسطين منذ 1917 تحت حراب الاستعمار البريطاني وبحمايته. وشتّت بالقوّة والمجازر ثلثي الشعب الفلسطيني، في حينه. وقد استولى على بيوتهم وأراضيهم وقراهم ومدنهم. ورفض عودتهم منذ ذلك التاريخ إلى اليوم.
حدث كل هذا بسبب سيطرة الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي عام 1918 على البلاد العربية وتجزئتها إلى 22 قطرا. وقد تحكّما، بما أقيم فيها من دول وأنظمة وحكام وجيوش الأمر الذي أمكن إقامة الكيان الصهيوني في ظروف اتسّمت بتجريد الشعب الفلسطيني من السلاح، والسيطرة على الدول العربية وتكبيلها وشلّها من جهة، واتسّمت من جهة أخرى بتسليح جيش الهاغناه بما يتفوق على الجيوش العربية السبعة التي دخلت فلسطين عديدا بثلاث أضعاف، وتسليحاً بعشرة أضعاف على الأقل، إلى جانب دعم عالمي شاركت فيه كل الدول الكبرى بما فيها الاتحاد السوفياتي سياسيا وعسكريا ومعنويا. ثم أعلن البيان الثلاثي من قِبَل أمريكا وفرنسا وبريطانيا 1951 متعهدا بحماية الكيان الصهيوني، خطوط الهدنة 1948/1949. وأعلن الاتحاد السوفياتي أيضاً حق الوجود لدولة الكيان الصهيوني بما يعني الحماية نفسها. وقد دامت هذه المعادلة إلى حزيران 1967، أي إلى أن توسّع الكيان الصهيوني ليحتل القدس وما تبقى من أرض فلسطين وسيناء والجولان.
من يدقق في هذه المعادلة من حيث موازين القوى العالمية والإجماع الدولي والسيطرة الغربية على البلاد العربية يتأكد من أن حدوث النكبة 1948 كان لا مفرّ منه. وقد أخطأ كل من حاول تفسيرها بأخطاء ارتكبتها القيادة الفلسطينية، في حينه، أو لأسباب ذاتية في شعوبنا، أو أعادها لمزايا تمتعت بها الحركة الصهيونية. فمن يتأمل جيداً في موازين القوى على كل المستويات ويُدقق في الظروف التي سادت عربياً وعالمياً تحت السيطرة البريطانية- الأمريكية- الفرنسية وصولا حتى الاتحاد للسوفياتي، وعلى كل المستويات أيضاً، عليه أن يخرج بنتيجة واحدة أن فلسطين قُدّمت من قِبَل بريطانيا والدول الكبرى على طبق من فضة للكيان الصهيوني. ولا تستحق الحركة الصهيونية أن يُسّجل لها من دور في ذلك يزيد على 15 أو 20 في المائة. أما الثمانون في المائة فلبريطانيا ثم للدول الكبرى الأخرى: صهيونياً من حيث الحماية والتسليح من جهة، وفلسطينيا وعربيا وإسلاميا من جهة أخرى تكبيلا وإضعافاً وشللا.
طبعا هذا لا يعني إعفاء من قصّر أو تواطأ فلسطينيا أو عربيا من المحاسبة ولكن يجب ألاّ يُعزى له أيّ قدر من المسؤولية في حدوث النكبة عام 1948 أو قبلها. أما بعدها فله حديثٌ آخر، علما أن موازين القوى العالمية والظروف العامة استمرت لعدّة عقود تهب رياحها إلى حدٍ بعيد في مصلحة الكيان الصهيوني. وإذا كان من حدوث تغيّر ملموس في موازين القوى فيجب أن تبدأ قراءته مع بداية أفول القرن العشرين وبداية القرن الـ 21.
أما البعد الأساسي الأهم في ما تتكشف عنه النكبة فيتمثل في تحديد جوهر الصراع، وجوهر القضية الفلسطينية، والطبيعة الأساسية أو الجوهر الأساسي للكيان الصهيوني.
إن اقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني، في حرب إقامة الكيان الصهيوني في عام 1948، من بيوتهم وأراضيهم وقراهم ومدنهم وإحلال مستوطنين غزاة بالقوّة والمجازر مكانهم، ثم الرفض المتواصل طوال 69 عاما لعودتهم، يؤكد أن طبيعة الصراع وجوهره تأسّسا على عملية اقتلاع شعب من وطنه وبيته وأرضه من قبل الكيان الصهيوني. فهو صراع اقتلاعي إحلالي مما يتجاوز العنصرية أو نظام الأبارتهايد. أي هو صراع وجود وليس صراع حدود. ومن ثم فإن الشعب الفلسطيني واجه في 1948 حربا استهدفت إزالة وجوده من أرض فلسطين، ولم تزل هذه الحرب مستمرة إلى يومنا هذا. وهو ما أفشل كل مساعي التسوية أو ما يُسمى "السلام" حتى عندما وصل موقف م.ت.ف إلى التنازل عن 78 بالمائة من فلسطين مقابل إقامة دُويلة فلسطينية على 22 بالمائة من فلسطين. وهو ما عُرف بـ "حدود 1967"، بما في ذلك القبول بكل الشروط الأمنية، وذهب محمود عباس إلى حد "التنسيق الأمني" ومطاردة المقاومة المسلحة والانتفاضة.
صحيح أن حكومات الكيان الصهيوني تظاهرت بأنها تريد "السلام"، ودعت للتفاوض من أجل الوصول إلى حل. ولكن ذلك كان كله ذراً للرماد في العيون من أجل الاستمرار يشن حرب وجود ضد الشعب الفلسطيني بهدف مواصلة الاقتلاع والتهجير. وذلك لإتمام السيطرة على كل فلسطين وإعلانها "دولة قومية لليهود". وإنكار وجود أي حق للوجود الفلسطيني فيها حتى كحال فلسطينيي الـ48.
صحيح أن ثمة أبعادا للكيان الصهيوني مثل العنصرية، ونظام الأبارتهايد، أو انتهاج سياسة الإبادة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ولكن أيّ من هذه الأبعاد يجب أن لا يَطمس طبيعته الاقتلاعية الإحلالية وشنه لحرب وجود مستمرة، وبأشكال مختلفة، ضدّ وجود الشعب الفلسطيني على أي جزء من أرض فلسطين، وحرب وجود ضدّ كل ما هو فلسطيني من ثقافة وحضارة وتراث وتاريخ وآثار وفنون شعبية وسرقة حتى الثوب الفلسطيني وادّعاء الفلافل والحمص والفول أكلات "إسرائيلية"، أو "تراث يهودي".
ومن ثم فإن الأبعاد المذكورة يجب أن تُعامَل باعتبارها مظاهر للجوهر الأساسي للصراع. فعلى سبيل المثال صراعنا معه ليس صراعا ضد نظام أبارتهايد يمارسه، وليس صراعاً بسبب كونه عنصريا، وإنما بسبب وجوده الإحلالي واقتلاعه لوجودنا. وذلك بالرغم من أن الصراع ضدّ طابعه العنصري أو نظامه المتسّم بالميز العنصري (الأبارتهايد) أو الصراع ضدّ ما يرتكب من جرائم ضدّ الإنسانية، يخدم معركتنا معه على المستوى العالمي والاستناد إلى القانون الدولي الذي داسه منذ وجوده غير شرعي حتى اليوم.
وخلاصة، إن جوهر المشكل هو أنه سلب بيتي وحلّ فيه مكاني، وأنه سلب أرضي وقريتي ومدينتي وراح يقتلع وجودي في فلسطين، ومن فلسطين. فعلى سبيل المثال لا فرق بين الذي سلب بيتي وحلّ فيه مكاني إن كان عنصريا أو يمينيا أو كان ضد العنصرية أو كان "يساريا" أو ليبراليا. فهذا هو معنى صراع الوجود الذي شنه الكيان الصهيوني والمستوطن اليهودي ضدّ الشعب الفلسطيني.
إن هذين البعدين: موازين القوى والهيمنة الدولية والتجزئة العربية من جهة والطبيعة الاقتلاعية للكيان الصهيوني من جهة ثانية، هما اللذان أمدّا عمر النكبة إلى 69 عاما حتى الآن.