تتعانق النكبات في هذا العام، لتشكل المشهد الفلسطيني المأساوي الذي يعكس مدى ظلم القوى الاستعمارية، التي لا تقيم وزنا لأطنان الوثائق والقرارات والقوانين التي تضج بها أدراج الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، ويتشدق بها زعماء ما يسمى العالم الحر.
اليوم تحل الذكرى التاسعة والستون، لنجاح المخططات الاستعمارية والصهيونية في إقامة دولة إسرائيل، على حساب أرض الفلسطينيين وحقوقهم.
وبالقرب منها، النكبة التي صنعها الفلسطينيون بأياديهم، وأدت إلى انقسام عميق وخطير يعاني منه الفلسطينيون وقضيتهم، وينال من كرامتهم.
أسابيع وتحل الذكرى العاشرة لنكبة الانقسام الفلسطيني، الذي يقدم خدمة جليلة للمخططات الإسرائيلية، وينهش في لحم القضية وأهلها، وقبل نهاية العام تحل الذكرى المئة لأم النكبات، التي كان من أبشع ما أقدم عليه وتركه للبشرية الاستعمار البريطاني.
وعد بلفور هو المحطة التأسيسية لتنفيذ المخطط الصهيوني، ولولاه لكانت الدنيا غير هذه الدنيا.
بعيدا عن النواح والعويل، والاستطراد في إظهار مخاطر تلك النكبات، وبعيدا عن الأشكال التقليدية، التي دأب الفلسطينيون على اتباعها في مثل هذه المحطات، ثمة ما ينبغي أن يشكل دافعا لتحويل هذه الذكريات البائسة إلى مبادرات سياسية وعمل، لمحاصرة هذه النكبات واقتلاع أسبابها ومعالمها.
إذا كان الكفاح الفلسطيني لتحرير الأرض واستعادتها، ينطوي على جهد متواصل لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن بذله، وتقديم ما يلزم من تضحيات على مذبحه، فإن من الواجب التذكير بأن المعركة طويلة، ومفتوحة على الزمن، وعلى المزيد من التضحيات، لا مجال لليأس، وعلى من يتملكه الإحباط أن يتذكر بأن الاستعمار الفرنسي مكث في الجزائر مئة وثلاثين عاما، وأن الحملات الصليبية استغرقت نحو مئتي عام حتى ارتدت على أعقابها.
مئة عام على وعد بلفور، لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن مجابهته، وتحدي منتجاته، عبر رحلة طويلة من النضال والتضحيات. ما تحتاجه هذه الرحلة، هو ألا يكرر الخلف أخطاء وخطايا السلف ـ غنية التجربة الكفاحية الفلسطينية، وهي متعددة المراحل والأشكال والأدوات، ما ينطوي على إدانة شديدة للقيادات والفصائل التي تتجاهل أهمية تلك الدروس، وتكرر لأسباب فصائلية أنانية، العديد من التجارب والممارسات الخاطئة، التي ألحقت وتلحق أضرارا بليغة، وتضخم الثمن الذي يدفعه الشعب.
في هذا السياق، تأخر الفلسطينيون كثيرا، إلى أن بدأت ترتفع أصواتهم التي تطالب بريطانيا الاستعمارية، بالاعتذار من الشعب الفلسطيني على جريمة بائنة ارتكبتها بحقه. ولكن لماذا لا تستجيب الدولة التي ورثت عهدا طويلا من الاستعمار حتى عرفت على أنها الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؟ بالتأكيد ثمة ما يشير إلى أن العقل الاستعماري لا يزال يعشعش في رؤوس صناع السياسة البريطانية، ولكن الأهم ربما، هو أن بريطانيا، لا تزال تشكل السند والداعم لمشروعها الصهيوني الذي خلقته، ما ينطوي على إدانة فاضحة لمنظومة القيم الغربية التي تدعي الديمقراطية واحترام الحريات وحقوق الإنسان.
حين يتعلق الأمر بإسرائيل، لا تتردد ألمانيا في أن تتحمل المسؤولية عن الأعمال البشعة التي ارتكبتها النازية بحق اليهود، والسبب هو نفسه، بمعنى أن ألمانيا الرأسمالية هي الأخرى تعبر عن دعمها ورعايتها للكيان الذي خلقته زميلاتها الرأسماليات الأوروبية.
لا تجوز المجاملة في التعامل مع حق الشعب الفلسطيني من رقبة التاج البريطاني، والمفروض أن نخوض "حربا"، وأن نمارس ضغوطا هائلة لا تتوقف لإرغام الحكومة البريطانية على الاعتراف بخطئها، والاعتذار عنه، وتعويض الشعب الفلسطيني، فضلا عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لن ترضخ بريطانيا طالما أنها لا تشعر بالحاجة لذلك، ولذلك أصبح من الضروري أن يتحرك الفلسطينيون في الإطار العربي أولا، ثم الإسلامي والدولي تاليا، لتوليد حالة من الضغط الحقيقي على أحفاد بلفور.
لا بد أن يصبح هدف إرغام بريطانيا على الاعتذار والتعويض، جزءا رئيسا من برامج العمل الوطني الفلسطيني، لا أن يظل هذا الهدف، رهنا فقط بالتصريحات المنددة، في المناسبات.
قد لا تكون نكبة الانقسام مساوية من حيث أبعادها ومخاطرها لنكبة وعد بلفور، أو نكبة قيام دولة إسرائيل، من دون أن نتجاهل نكبة هزيمة حزيران 1967، التي يقترب موعدها أيضا، لكن الفارق هو أن نكبة الانقسام، من صنع أيدينا، وعلى طريقة ظلم الأقربين أشد مضاضة.
يستطيع الفلسطيني أن يتحمل الظلم الذي يتعرض له من الاحتلال، أو من القوى الاستعمارية الداعمة للاحتلال، لكنه يشعر بالمرارة إزاء الظلم الذي تتعرض له القضية وتتعرض له الحركة الوطنية والشعب الفلسطيني بسبب وقوع واستمرار هذا الانقسام.
هذا الظلم من ذوي القربى غير مقبول، ومن الخطأ الكبير أن يستمر لعام آخر، ذلك أن من أهم تداعياته، أنه يجرد المواطن من وطنيته ويحط من كرامته الإنسانية، ولا يترك له مجالا إلاّ للشكوى، والبحث عن الخلاص الذاتي.
بريطانيا ومعها الدول الاستعمارية مسؤولة عن النكبة الأم، ومسؤولة عن استمرار وتعميق هذه النكبة، وإسرائيل والحركة الصهيونية مسؤولة عن نكبة العام 1948، وعن نكبة العام 1967، ومسؤولة عن كل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ظلم ودمار، لكن القيادات الفلسطينية التي تدير المركب الفلسطيني هي المسؤولة عن نكبة الانقسام.
لإنهاء الانقسام، لم تعد الاتصالات والحوارات والتصريحات الإيجابية والسلبية تنفع في شيء، بل إنها تساهم في تعميق مشاعر الإحباط والخذلان لدى الناس، وأخشى أن يترتب على المواطن الفلسطيني أن يدفع مرة أخرى ثمن إنهاء الانقسام، الذي يبدو على أنه غير قابل للانتهاء إلاّ عبر الضغوط ووسائل الإكراه. هل هذا ما تدفع الأمور إليه، السياسات الخاطئة والمصالح الفصائلية الأنانية، حتى لو كان ذلك على حساب الجهد الفلسطيني، الذي ينبغي أن يبذل في الصراع مع الاحتلال، ومع أحفاد بلفور.
إن كل تأخير في إنهاء هذه النكبة، يشكل استنزافا للقوى الحية وخدمة للمحتل، وفي النهاية، سيدفع أصحاب الحسابات الخاطئة الثمن مضاعفا، حيث إن الفاتورة ستتضخم مع مرور المزيد من الوقت.