في كل سنة يقوم الآلاف من ذوي الديانة اليهودية بزيارة كنيس مشهور يقع بجزيرة جربة التونسية. ويعرف هذا الكنيس باسم "الغريبة"، كما يطلق على هذه الزيارة صفة "الحج" باعتبارها مناسبة دينية لها طقوسها وأدعيتها الخاصة، وتقام خلالها الصلاة، وتعطى الصدقات، وتنظم الاحتفالات.
هذا وتحوم حول تاريخ هذا المعبد روايات عديدة ومعتقدات رائجة في صفوف اليهود تتعلق بالخصوص حول تلك الفتاة التي وجدت نفسها قبل ثلاثة آلاف سنة وحدها في بيت مهجور ومتداع للسقوط، وبحكم تفرغها للعبادة وأنها ابنة كاهن يهودي فقد احترق البيت لكن جثمانها بقي كاملا رغم النيران. هذا ما تذكره بعض تفاصيل الأسطورة.
يعتبر هذا المكان من بين أهم المزارات التي يجلها اليهود ويتوجهون إليه من كل مكان، ولهذا السبب قرر تنظيم القاعدة استهدافه خلال سنة 1992، حيث نفذ أحد التونسيين عملية انتحارية أدت إلى قتل 22 شخصا معظمهم سائحون من ذوي الجنسية الألمانية.ومنذ ذلك التاريخ أصبحت "الغريبة" موقعا استراتيجيا يتمتع بكثير من الحساسية والرمزية والاهتمام.
وبما أن الجالية اليهودية التونسية قد مرت بسلسلة من الهجرات الكثيفة، كان من أهمها تلك التي حدثت على إثر هزيمة 6 يونيو (حزيران) 1967، فقد تقلص عدد أفرادها ليصبحوا اليوم يعدون بالآلاف رغم أنهم يعتبرون من بين السكان الأصليين لتونس القديمة.
وقد كان الرئيس بورقيبة كثيرا الاهتمام بشؤونهم، وحريصا على توفير الأمن والحماية لهم. وقد حافظ الرئيس بن علي خلال فترات حكمه على نفس السياسة، وربط علاقات جيدة بالأوساط اليهودية الفرنسية لدوافع سياسية، وخاصة بذوي الأصول التونسية.
عندما حدثت الثورة، عادت الهواجس من جديد إلى اليهود التونسيين، خاصة بعد أن تعرضت بعض معابدهم إلى اعتداءات بقيت محدودة ومعزولة. وهو ما دفع بجميع الحكومات المتعاقبة بعد سنة 2014 بما في ذلك حكومة الترويكا إلى اتخاذ إجراءات استثنائية لحماية "الغريبة" وزائريها، خاصة خلال موسم "الحج" إليها.
لقد أصبح من المعهود أن يقوم ممثلو الطائفة اليهودية بزيارة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي طالما تعامل معهم بكثير من الود في محاولة منه ومن قادة الحركة القضاء على فكرة يروجها خصومهم عنهم للتأكيد على كونهم حركة معادية لليهود، ويمكن أن تكون مساندة وداعمة لكل أشكال التمييز العنصري ضدهم والاعتداء عليهم بهدف تشجيعهم على مغادرة البلاد التونسية بشكل نهائي كما فعل سلفهم من قبل.
يمكن القول بأن حركة النهضة قد نجحت إلى حد واسع في تقليص هذه النظرة السلبية تجاه أعضائها. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى الزيارات المتكررة التي قام بها قادة الحركة إلى كنيس الغريبة خلال المراسم الأخيرة للحج. إذ سبق للشيخ عبد الفتاح مورو نائب رئيس الحركة أن زار المعبد، وخاطب زواره بكثير من الود والتعاطف، وذلك بلهجة تونسية عريقة، وذكرهم بأن الحي الذي ولد فيه وتربى عندما كان طفلا كان حيا يسكنه يهود، وكانت للعائلة صداقة جوار مع الكثير منهم. وهو ما زاد في شعبية مورو داخل الأوساط اليهودية، رغم الهجوم الذي تعرض له عبر الفيسبوك من قبل ذوي الميول السلفية الذين هاجموه بشدة، واتهموه بـ"التطبيع" مع "الصهيونية"؟؟
لا شك في وجود خطاب معاد لليهود يقوم على التمييز، لكنه خطاب فقد أهميته داخل السياق التونسي، حيث اتسعت دائرة الوعي بأن اليهودية مفهوم منفصل عن الصهيونية، وأن اليهود التونسيين هم جزء لا يتجزأ من الوطن وبهويته وتاريخه وكيانه. كما توفر بالخصوص إدراك واسع بأن حماية اليهود هو جزء لا يتجزأ من حماية الأمن القومي لتونس، وأن الحج إلى الغريبة مرتبط عضويا بضمان المصالح العليا للبلاد، بل إن نجاح حج الغريبة أصبح يعتبر من بين المؤشرات الرئيسية التي يتم الاستناد عليها لإنقاذ الموسم السياحي، وتحسين صورة تونس في الخارج.
هذه أبعاد اقتصادية وسياسية لا يمكن التقليل من أهميتها، لكن الأهم منها هو البعد الثقافي والاجتماعي الذي يجب أن يستعيد مكانته، لأن جربة كانت ولا تزال تعتبر مدينة ساحرة، ليس فقط بموقعها الجغرافي الأخاذ والجميل، ولكن أيضا بحكم أنها مدينة تتميز بالتعايش بين مكوناتها الدينية والمذهبية المختلفة، حيث استقر داخل الجزيرة يهود ومسيحيون، إلى جانب أغلبية سنية وأقلية "إباضية" يصنفها البعض ضمن فروع الخوارج، لكنها تعتبر فرقة قريبة من هل السنة، تتميز بالاعتدال والانضباط والانفتاح.
ما يجري حاليا في جزيرة جربة بمناسبة "حج الغريبة" حالة حضارية متقدمة، تحتاج على الدعم والحماية، خاصة مع عودة ارتفاع حجم الزوار من خارج تونس، لأنه بمثل هذه المواسم والتقاليد يتم ترسيخ قيمة التسامح والتعايش. المهم تجنيب الظاهرة أي شكل من أشكال الإسقاط السياسي والأيديولوجي.