لا يمكن التعاطي مع حادثة خطف الشبان السبعة قبل أيام، وبعد منتصف الليل، وفي وسط بغداد، على أنها مجرد جريمة عادية نفذتها عصابات الجريمة المنظمة، فتحليل الوقائع التي رافقت جريمة الاختطاف تكشف دون أدنى شك أن ثمة جهة متنفذة، قامت بفعلتها في تواطؤ صريح مع الأجهزة الأمنية وسيطراتها ونقاط تفتيشها المنتشرة في بغداد (يزيد عددها عن 100 سيطرة/ نقطة تفتيش بعد أن كان عددها 155 نهاية عام 2016)! فضلا عن عشرات «المرابطات»، التي تمثل قوات أمنية تقوم بواجبات المراقبة والتأمين!
بالعودة إلى التاريخ القريب، فان الخطف كان جزءا من سياسة منهجية اعتمدتها العديد من القوى بعد لحظة 2003، في إطار الصراع السياسي/ الطائفي من جهة، ولأغراض التمويل، كجزء مما يسمى باقتصاديات العنف! وقد كانت الدولة، بسلطاتها المختلفة، وفي بعض الأحيان سلطة الاحتلال نفسها! طرفا رئيسيا في هذا الأمر، من خلال تواطئها الصريح مع الجهات التي تقوم بهذه الأعمال، أو من خلال توفير الغطاء السياسي لمثل هكذا عمليات، كلما بدأت أطراف أخرى بالمطالبة بملاحقة الجهات «المحسوبة» على الفاعلين الذين يتحكمون بالدولة/ السلطة! ومقاضاتها.
ويظهر هذا التواطؤ واضحا من خلال طبيعة التصريحات الرسمية، حيث أصبح الاتهام في هذه الفترة وبعدها، يحدد من خلال الفاعل وليس من خلال الفعل نفسه، أي طبيعة الجريمة أو صفتها؛ هكذا ابتدع الأمريكيون عبارة «فرق الموت»، وابتدع الفاعل السياسي الشيعي عبارة «الخارجين عن القانون» لتوصيف المليشيات الشيعية التي تقوم بهذه الجرائم، تجنبا لأطلاق صفة الإرهاب عليها!
بل إن هذه المنهجية اعتمدت في قانون مكافحة الإرهاب نفسه! عندما اشترط وجود «الغاية الإرهابية» و«الدوافع الإرهابية» لتوصيف جريمة ما على أنها إرهابية! أو أنها مجرد جريمة عادية! وبذلك تحول القانون من نص يمثل قاعدة عامة مجردة، إلى نص يتم «تأويله» تبعا لإرادة الفاعل السياسي، وتبعا لإرادة القضاء المسيس!
هكذا يكون الاختطاف فعلا إرهابيا عندما يراد له أن يكون فعلا إرهابيا فقط! فلا غرابة أن يتجول أحد أهم رموز الخطف والقتل الطائفي في عامي 2006 و2007، والمعروف باسم «أبو درع» مع حماياته في شوارع بغداد، يتلقى التحايا من القوات العسكرية والأمنية، لأن الرجل بمفهوم السلطة الطائفية القائمة ارتكب «أعماله» في النهاية دفاعا عن «الطائفة والمذهب»، وليس بدافع إرهابي، وهو فعل «مقدس» لا بد من التواطؤ معه، لا سيما مع عجز الضحايا على توجيه الاتهامات خوفا ويأسا، وعجز ممثليهم السياسيين عن الدفاع عن مصالح جمهورهم خوفا على مصالحهم ومناصبهم السياسية!
في عام 26 أذار/ مارس 2006 اقتحمت إحدى الفرق العراقية الخاصة التي دربها الأمريكيون، وبأمر من القوات الأمريكية ودعمها، «حسينية المصطفى» في منطقة حي أور في بغداد، والتي كانت «مسلخا» للمختطفين المدنيين السنة! وقد أظهرت الصور الملتقطة عشرات الجثث التي تعرضت لتعذيب وحشي! ولكن هذا لم يمنع رئيس مجلس الوزراء العراقي والفاعلين السياسيين الشيعة جميعا من التنديد بعملية الاقتحام بدلا من التنديد بجرائم خطف وتعذيب وقتل مواطنين عراقيين! وفي نهاية العام نفسه، تحديدا في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر قامت مجموعة مسلحة باختطاف ما بين 100 إلى 150 موظفا ومراجعا من دائرة البعثات التابعة لوزارة التعليم العالي من منطقة الكرادة في وسط بغداد، واستطاع الخاطفون برتلهم الكبير والمسلح عبور عشرات السيطرات/ نقاط التفتيش من دون أن يوقفهم أحد! وبعد فرزهم على الهوية، تم أطلاق سراح البعض وأخفي الباقون، وقد اكتشفت جثث بعضهم فيما بعد وقد تعرضت لتعذيب شديد، ومع ذلك فان وثائق وزارة التعليم العالي لا تزال تتحدث عن 56 مفقودا من موظفي دائرة البعثات!
يومها قلل رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي من وقع العملية، وتحدث عن بضعة مخطوفين فقط، ووصفها بانها مجرد تصفية حسابات سياسية! ومع هذا لم يزعج أي مسؤول رسمي نفسه بإبلاغنا بهذه الجهة السياسية، أما الحديث عن ملاحقتها ومحاسبتها فهو خارج التفكير تماما!
فيما بعد أصبح الاختطاف، أو الاختفاء القسري أكثر منهجية، وأقل صخبا! الآلاف اختفوا، من دون أن يعرف لهم أثر، ومن دون أن يهتم أحد بأمرهم! ولكن حالات الاختفاء القسري شهدت تصاعدا ملحوظا استغلالا للحظة تنظيم الدولة/ داعش. ورصدت حالات اختفاء قسري للآلاف العراقيين، بشكل جماعي أو فردي؛ ففي سيطرة/ نقطة تفتيش الرزازة ضاع أثر أكثر من 900 نازح في تشرين الثاني/ نوفمبر 2005، تبعا للقوائم التي أصدرها مجلس محافظة الأنبار. حين تم فصلهم عن أسرهم النازحة من مدينة الرمادي، وتم اعتقالهم بشكل جماعي، ولا أحد يعرف حتى اللحظة مصيرهم! وليس مستغربا أن لجان التحقيق المشكلة لم تعلن شيئا من تحقيقاتها! مرورا بحالة الاختفاء القسري ل 643 نازحا مدنيا من مدينة الصقلاوية في حزيران 2016، عندما قامت القوات العسكرية الرسمية والمليشيات المرافقة لها بعزلهم عن عوائلهم النازحة من المدينة عبر «الممرات الآمنة» هربا من المعارك، ولم يعثر لهم على أثر بعد ذلك! ومرة أخرى لم تكشف لجان التحقيق المشكلة أي شيء عن نتائج تحقيقاتها حتى اللحظة!
في هذه الحالات جميعا، كان ثمة إنكار منهجي، وسرديات رسمية للتمويه! وتواطؤ جماعي اشترك فيه حتى المجتمع نفسه حيث اكتسبت هذه الميليشيات بعد تصديها لداعش صفة التقديس التي حصنتها من المساءلة. ولم ينتبه جمهور العراقيين إلى هذه الظاهرة القديمة الجديدة إلا حين بدأ مسلسل الاختطاف الأخير ليتكشف المستور! ولتظهر «الدولة» بمظهر الوسيط «المحايد» بين المختطفين وخاطفيهم! فقد «تدخل» رئيس مجلس الوزراء السيد حيدر العبادي رسميا للإفراج عن الصحافية أفراح شوقي بعد اختطافها واحتجازها لأكثر من أسبوع، وكشف كاميرات المراقبة سيارة شرطة وهي ترافق رتل سيارات «الخاطفين» إلى بيت «المخطوفة»!
وفي الحالة الثانية، تم إطلاق سراح 24 مخطوفا قطريا، ومخطوفين سعوديين، بعد أكثر من سنة ونصف على اختطافهم من صحراء السماوة! في إطار صفقة دولية تتعلق بتبادل مدنيين بين النظام السوري وحلفائه، والمعارضة السورية وحلفائها! وكانت الصفقة تتضمن فدية تزيد عن 250 مليون دولا تسلم للخاطفين في مطار بغداد! ومراجعة سريعة لبيان وزارة الداخلية العراقية يكشف عن تواطؤ الوزارة الصريح مع الخاطفين في هذه المسألة! فالبيان تحدث عن «استلام» الوزارة للمختطفين، وليس عن تحريرهم! طبعا من دون أن تحدثنا الوزارة عن «الخاطفين» الذين تسلمتهم منهم، ومن دون أي إشارة تطبيق القانون بهذا الصدد.
بالعودة إلى حالة اختطاف الناشطين السبعة، الذين تم «تحريرهم ومنح كل واحد منهم مبلغا ماليا» بعد يومين من الاختطاف، كما ورد على لسان المستشار الإعلامي لوزير الداخلية العراقي! فقد ألمح رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي في مؤتمر صحافي قبيل ذلك، إلى أن جهة «سياسية» ضالعة في العملية، لأن المختطفين «وجهوا انتقادات لتلك الجهة التي تريد المشاركة بالانتخابات»! طبعا لا أحد من المسؤولين تطوع لإخبارنا من هي الجهة الخاطفة! وكيف تم تحرير المختطفين من دون إلقاء القبض على أحد «الخاطفين»! الجواب أن الجميع يعرف هوية الخاطفين، بشكل حصري، أو بشكل عام. تحديدا الجهات الرسمية المعنية بالأمن.
ولكن لأن لا «دوافع إرهابية» أو « أغراض إرهابية» لهم! ولأنهم فاعل أساسي في مشروع فرض هوية أحادية على الدولة تنفيذا لما يريده الفاعل السياس الشيعي! فانه لا بد من التعاطي مع «نزواتهم» و» انفلاتهم»، المرتبطة بالخطف والإخفاء القسري والقتل، على أنها ضرورة لها ما يسوغها سياسيا، وبالتالي لا بد من التغطية عليها. فهذه «المليشيات» تمثل في النهاية الأداة اللازمة لتنفيذ الأعمال القذرة التي لا يستطيع الفاعل السياسي تنفيذها بأدواته الرسمية بسلاسة، في إطار صراعه على السلطة والهيمنة!
يخبرنا نعوم تشومسكي في مقالة شهيرة عن مجزرة صبرا وشاتيلا، التي قتل فيها ما يقارب من 2000 مدني فلسطيني ولبناني بدم بارد، عن «التواطؤ الجماعي» مع القتلة، وينقل لنا تفاصيل واقعة أخرى جرت في مدينة «كيشينيف» الروسية، نتيجة إشاعة اتهمت «اليهود» بقتل امرأة مسيحية، عندما بقيت مفارز الشرطة والجنود دون حراك تراقب عمليات الانتقام من اليهود! وأنه مع وصول الأوامر بالتدخل، و«ما أن لاحظت الحشود أن الجنود كانوا مستعدين للتدخل حتى لاذت بالفرار، وبدون إطلاق رصاصة واحدة»! وينتهي تشومسكي إلى أن هذه الجريمة «ما هي إلا نتيجة مباشرة لدعاية الكذب والعنف التي أدارتها الحكومة الروسية بنشاط كبير». وإن هذه الحكومة شأنها شأن الحكومة التركية أبان مذبحة الأرمن، أو الحكومة الإسرائيلية في مذبحة صبرا وشاتيلا: «تبقى غير مكترثة على الإطلاق تجاه أشنع أفعال الوحشية، ما دامت هذه الأفعال لا تؤثر على مصالحها»!