موقعة الأزهر

معظم الحروب إن لم تكن كلها تبدأ بالكلام.. ثم ما تلبث أن تتحول إلى معارك حقيقية تستخدم فيها كل فنون الحرب من استطلاع ومعلومات واستخبارات ثم مناوشات ما تلبث أن تتحول إلى اشتباكات متناثرة عبر الجو أو البحر ثم تأتي أم المعارك البرية لتكون الحاسمة والتي بفضلها يتمكن طرف من الأطراف من القضاء على خصمه ودفعه لرفع الراية البيضاء. 

في عالم الجيوش المسلحة هذا أمر حقيقي ومجرب، فماذا عن المعارك السياسية؟

لنعد بالذاكرة قليلا وقبل زيارات الجنرال السيسي المتكررة إلى الخارج ستجد أنه يمهد الطريق بحروب كلامية ومناوشات واضحة يتلوها قصف جيهة غير مسبوق على الدين الإسلامي تارة بصورة صريحة وتارات أخرى عبر النيل من الأزهر مشيخة وشيخا. 

في كل مرة تقريبا وقبيل سفر الجنرال إلى الخارج تسبق هذه الطقوس الإعلامية أي زيارة خصوصا إذا كانت الزيارة لفرنسا أو للولايات المتحدة أو بريطانيا أو غيرها من الدول التي تزعم أنها تحارب الإرهاب مع أن الجميع يعلم أن الإرهاب صناعة سياسية ومخابراتية غربية بامتياز للإبقاء على المنطقة النفطية العظمى (العالم العربي وإيران) تحت السيطرة. 

يذهب السيسي حاملا لواء تحديث الدين وتجديد الفكر وتطوير الملة، مقدما نفسه إلى الغرب بأنه يقوم بما عجز عنه الأولون من أولياء الغرب وأتباعه وعملائه، فتفتح له الأبواب الموصدة مادام سيكون خادما في بلاط الغرب وجزء مهما في حملته على الأمة ودينها وملتها. 

تطوع السيسي ولو أول مرة بالزعم أن هناك ما يسمى بالإرهاب الإسلامي، وهو تصريح فاق بكثير توقعات الغرب الذي واجه صعوبة في تسويق فكرة الإرهاب الإسلامي من خلاله أبواقه الإعلامية فجاءه من يصرح بذلك وبالطبع ليس مجانا. 

اعتقد الجنرال أن بمقدوره خوض معركة الأزهر والفوز فيها بسهولة ولم لا والكل يوافق رأيه بل إن الكل طوع أمره وملك يمينه وأعني بالكل هنا وسائل إعلام الانقلاب ومعها وسائل عربية أخرى تقع في نطاق سيطرة ممولي الانقلاب وداعميه في المنطقة. 

حملة استطلاع ومعلومات ومخابرات ترصد وبدقة تفاعل واستجابة الأزهر ممثلا بشيخه لتعليمات الجنرال السيسي، يتبعها مناوشات إعلامية من بعض النوافذ عبر لواءات وجنرالات ومشايخ زور يقصفون جبهة الأزهر. 

تستسعر الحرب رويدا رويدا باللوم العلني الذي يوجهه الجنرال وبصورة متكررة للأزهر، وتطلق كتائب الباحثين الوهميين للتفتيش في كتب التراث ومناهج الأزهر لاستخراج ما يدينون به الأزهر بعد أن نالوا من شيخه غمزا ولمزا واتهاما صريحا لا تلميحا أو من وراء حجاب. 

تصمد المشيخة في وجه المناوشات ليس لقوتها فقط ولكن لأن الهجوم على المشيخة لم يقتصر على مسألة المناهج بل وصل إلى العقيدة والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، ساعتها انتبه الناس من غفلتهم وأفاقوا من غفوتهم على أصوات الحمير التي تنهق معلنة أن بعض الأحاديث النبوية تحض على الإرهاب، ثم ما لبث الناس البسطاء أن أدركوا عمق الحرب وهدفها الاستراتيجي لا يقتصر على المشيخة أو الشيخ بل الدين والملة حين رأوا استخدام الانقلاب لأسلحة الدمار الشامل والمحرمة دينيا مثل مطالبة أحد شعراء زمن الغبرة وأعني به أحمد عبد المعطي حجازي وهو شاعر صرح يوما بأنه لم يصلي لله إلا مرة واحدة، والذي طالب بإلغاء بعض الأيات القرآنية التي جاءت في الجهاد والقتال. 

مرت المناوشات بخير واعتقد بعض السذج أن المعركة انتهت وأن الجنرال قد أدرك بذكائه الفطري الخارق أنه لا قبل له بالمشيخة ولا بالدين التي تدافع عنه، لكن الضغوط الهائلة الواقعة على الجنرال واستحقاقات وصوله لمنصبه تتطلب منه الاستمرار في دوره لهدم الدين. 

تزداد المعركة سخونة، وينتصف القضاء أو بعض أفراده للدين فيحكمون بسجن أحد أبواق السيسي من الباحثيين الأمنيين، فيتنفض السيسي لأحد أزلامه ويستخدم حقه الدستوري في العفو عن فتاه المدلل إسلام البحيري وبدلا من إعلان النظام هزيمته أو تأجيل الصراع لمرحلة يكون فيها أكثر استعدادا أو إعلان الهدنة، إذا به يعطي تعليماته لراجمات الصواريخ بإعادة استعمال إسلام البحيري إعلاميا، هذه المرة ليقصف جبهة شيخ الأزهر نفسه. 

يفشل البحيري فيقوم السيسي بنفسه بالنيل من شيخ الأزهر وعلى الهواء مباشرة، ثم يعود في لقاء آخر ويدرك أن المسألة ليست بالسهلة ليعلن أنه يحب الشيخ ولكن قلبه يضمر له الشر كل الشر، فيوحي إلى صبيانه أن استمروا في الهجوم على الشيخ والمشيخة والدين والملة، فيفعلون وبروح معنوية تفوق مواجهتهم للعدو الصهيوني لو واجهوه حقا ولم يفروا أمامه فرار المرء من الطاعون. 

جاءت أحداث الكنيستين في طنطا والاسكندرية ليتوجا فشل السيسي الأمني الذي لا نظير له. هذه المرة لم يعد مقبولا أن يتهم السيسي الإخوان المسلمين خصوصا بعد أن أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن الأحداث، ولم يكن بمقدور السيسي أن يشير بأصبع الاتهام للداخلية التي تحمي عرشه المتهالك عبر سياسة أمنية همجية ووحشية غير مسبوقة، إذن ليكن الأزهر هو من يتحمل المسؤولية دون غيره. 

هكذا تم إلصاق التهمة للأزهر الشريف بدون تحقيق أو تحليل لمعلومات ودراسات تشير وبوضوح إلى أن الظلم اللامتناهي والذي تتعرض له مصر يمنح البعض الفرصة للتعبير عن غضبه بطريقة أو بأخرى وإن اختلفت معها أو استنكرتها وأدنتها بأقوى عبارات التنديد. 

ولأول مرة يتم استخدام الأسلحة الجرثومية في معركة السيسي مع الأزهر وشيخه، وتم قصف الشيخ والمشيخة بوضوح وصراحة وألقيت براميل القنابل المتفجرة إعلاميا مثل أحمد موسى وعمرو أديب وزوجه المصون لميس الحديدي وغيرهم على مقر المشيخة واستهدفت مكتب شيخ الأزهر ونالت من عمامته وعباءته ولولا عناية الله ورعايته وتنبه الغافلين في بعض الأجهزة إلى أن الحرب التي يخوضها السيسي على الشيخ والمشيخة ليست إلا ستارا لحربه على الملة والدين، وتمهيدا لزيارة بابا الفاتيكان إلى مصر والأزهر في موقف صعب وبالتالي ترتفع كلمة الأقباط  على حساب الإسلام والمسلمين أثناء زيارة الأخير للسيسي وليس لمصر.

جاء البابا في إطار صفقة بمقتضاها يواصل السيسي هجومه على الأزهر واتهامه وإضعاف موقفه مقابل توسط الفاتيكان في قضية الشاب الإيطالي، وكان له ما أراد فقد استقبله السيسي استقبال الفاتحين ولولا الملامة لأعلن السيسي تنصره على يديه فرحا بموقف البابا الإخوان المسلمين والذي عبر عنه سفيره في القاهرة بصراحة وجون مواربة. 

سافر البابا، وجاء الاحتفال بعيد العمال وحضر شيخ الأزهر ليستقبله الناس وهم رجال السيسي وأعوانه وأنصاره بالتحية والهتاف.. يا إلهي لقد اعتقد البعض أن الشيخ انتهى وأن المشيخة قد أصبحت جزءا من ركام المعركة.. فما الذي جرى ولماذا جرى؟

معركة السيسي مع الدين والمعروف إعلاميا بمعركة الأزهر لم تنته ولن تنتهي قبل انتهاء حكم العسكر وخصوصا السيسي، فهذا الرجل بينه وبين الدين حالة عداء مرضية غير مسبوقة وهو يعتبر نفسه في حرب مفتوحة مع الدين.