بالقدر الذي يتقدّم فيه الأمريكيون في سوريا وغيرها، يتراجع الروس في سوريا وغيرها، والعكس صحيح. وذلك يعني في زبدته وفحواه الأخير، أنّ آلية النزاع ليست مفتوحة بين الطرفين على الأسوأ وبشكل يمكن أن يأخذ العالم مرّة أخرى إلى استقطاب حاد مثل الذي سرى غداة الحرب العالمية الثانية.
أخذت روسيا «فرصتها» مع باراك أوباما. وحاولت العودة إلى مصاف الدول العظمى من دون أن تجد طريقا إلى ذلك سوى باعتماد آليات عمل قديمة في عالم جديد؛ أي باعتماد العنف والقوة، لكن تحت سقف ضمور الدور الأمريكي وليس فوقه. وتلك جزئية خطيرة وكبيرة، حاول سيرغي لافروف وزير خارجية فلاديمير بوتين تجاوزها عندما قال، أو نُسِبَ إليه القول أخيرا وبعد زيارة نظيره الأمريكي إلى موسكو، إنّ «مشكلة الطرف الآخر، (أي الولايات المتحدة أساسا) هي رفض الإقرار بأنّ روسيا دولة عظمى»! وإنّ أحاديّة القيادة (أو ما يشبه ذلك!) انتهت!
تحت ظلال هذا الكلام الكبير، تجري وستجري أكثر، «إعادة نظر» شبه شاملة في السياسة الروسية إزاء الوضع السوري. ثم إزاء «الوضع الإيراني». أي أن موسكو ستبقى تقول ما تقوله علنا، وستستمر في «التأكيد» على «عمق» علاقاتها مع حليفيها المعلنين، لكنها منطقيا وفي الحساب الأخير، لن تضعهما في كفة واحدة موازية لكفّة علاقاتها ومصالحها الكبرى مع الأمريكيين وخلفهم معظم ما يُسمى المجتمع الدولي.
ومعنى ذلك، أو من معانيه التفصيلية، أن يُرسل فلاديمير بوتين بالأمس، برقيّة إلى رئيس سوريا السابق بشّار الأسد، يهنّئه فيها بذكرى «الاستقلال وجلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا»! ثم يتعهّد له بمواصلة «الدعم الفعّال» لضمان «حماية سيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها».. إلخ. في حين أنّه غير مستعد عمليا «وعلى الأرض» لإطلاق رصاصة واحدة ضدّ أي عمل عسكري أمريكي يستهدفه. وغير مستعد «للقتال من أجله»، إذا كانت الجهة المقاتلة المقابلة هي الولايات المتحدة! وغير مستعد فوق ذلك «لارتكاب» أي خطوة تهدد مكاسبه السابقة! «المتلائمة» في عُرفه (وبرقيّته) مع «سيادة الدولة السورية»!
والواقع الأمرّ من ذلك، هو أنّ بوتين لم يقاتل الأتراك من أجل بشار الأسد فكيف الحال مع الأمريكيين؟ ثم قبل هذا، لم يُخالف الإسرائيليين ولا أجندتهم المتعلقة باستهداف «حزب الله» في سوريا، وفي ظل فترة السماح الأوبامية، فكيف الحال الآن والأمريكيون بدأوا في استعادة أوراقهم في كل مكان، واختاروا سوريا وبشّار الأسد تحديدا، كعنوان لتلك الاستعادة؟!
مندفع وطموح فلاديمير بوتين، لكنّه ليس ارتجاليا. ومغامر لكنّه ليس مقامرا! وصاحب رؤيا ولكنه ليس قصير النظر! وفرادته أنّه تاجر مؤدلج! ومثله مثل أي تاجر شاطر، ينخرط في السوق بحثا عن الربح وليس الخسارة.. ولا يمكن لعاقل أن يسيء الظن فيه ويُفترض أنّه لا يعرف التفريق بين البضاعة الكاسدة والبضاعة الرائجة! أو إنه لا يعرف تمام المعرفة أن بشار بضاعة مُنتهية الصلاحية!
المستقبل اللبنانية