لم يكن الهجوم الكيماوي على منطقة خان شيخون بريف إدلب في 4 نيسان/ إبريل 2017 والذي أسفر عن مقتل 100 شخص وإصابة 400 آخرين الأول من نوعه في سوريا كما لم يكن الهجوم الكيماوي الأشد فظاعة والأكثر عنفا في تاريخ الأزمة السورية لكن ردة الفعل الأمريكي بدت للوهلة الأولى مختلفة وكأن الضمير العالمي المستتر قد أصيب برضة وجرح نرجسي عميق حيث تولت الولايات المتحدة معالجة الأضرار والآثار النفسية التي لحقت بالذات الأمريكية الجريحة والكرامة الإنسانية المستلبة عبر استعراض القوة بوجبة استهلاكية سريعة من الصواريخ عالية الدقة في منطقة شبه فارغة في مطار الشعيرات بريف حمص.
عقب الهجوم الكيماوي اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حكومة الرئيس السوري بشار الأسد "بتجاوز الخط الأحمر" بهجوم الغاز السام على المدنيين وقال إن موقفه تجاه سوريا والأسد تغير، حيث أصدر أوامره للقوات الأمريكية في 7 نيسان/ إبريل 2017 يإطلاق 59 صاروخا من طراز توماهوك من سفينتين في البحر المتوسط على قاعدة الشعيرات الجوية في محافظة حمص وسط سوريا، وأسفرت هذه الضربات العلاجية بحسب بيانات محافظ حمص عن قتل سبعة أشخاص بينهم مدنيان من سكان القرية وخمسة عسكريين من المتواجدين في القاعدة، وأعلنت وزارة الدفاع الروسية لاحقاً أن الضربات الأميركية أسفرت عن مقتل أربعة من العسكريين السوريين فيما اعتبر اثنان في عداد المفقودين، في الوقت الذي أصيب فيه ستة آخرون بحروق أثناء إطفائهم الحرائق، وذكرت القوات المسلحة السورية في بيان لها أن 6 من العسكريين السوريين لقوا مصرعهم وسقوط عدد من الجرحى.
لا جدال أن سورية تحولت إلى مركز لاختبار القوة وساحة للصراع الدولي والإقليمي حيث تختبر فيه كافة الأطراف بعضها لتحديد مكانتها ونفوذها الأمر الذي جعل من استخدام السلاح الكيماوي حقلا مثاليا للتجريب ذلك أن قتل الآلاف من المدنيين السوريين من خلال الأسلحة التقليدية على اختلاف أنواعها لا يمس الضمير الكوني ولا يثير الرأي العام العالمي الذي اعتاد على مشاهد القتل والدمار التقليدي في العالم العربي الإسلامي.
هكذا فإن كافة الأطراف تنصلت من مسؤولية تنفيذ الهجوم الكيماوي وتبادلت الاتهامات وبدا أن البحث عن منفذ الهجوم يتطلب الغوص في الدوافع والأسباب والأهداف لكن الحقيقة أن المسألة تتمحور حول الدوافع الاستراتيجية وراء الهجوم بالأسلحة الكيميائية فهي التي يمكن من خلالها الكشف عن المدى الذي يمكن بلوغه والعواقب المحتملة لكافة أطراف اللعبة الاستراتيجية وفي مقدمتها أمريكا بقيادتها الترامبية التي حمّلت على الفور النظام السوري مسؤولية الهجوم وتركت الباب مواربا حول مسؤولية روسيا ثم إيران وقد جاء الرد الأمريكي على النظام وحده بصورة ملطفة بعد إبلاغ الروس بلعبة العقاب والعواقب.
في حقيقة الأمر لا يمكن الحديث عن تنفيذ النظام السوري للهجمات بعيدا عن معرفة وإشراف روسيا وإيران ذلك أن الثلاثي المحلي والإقليمي والدولي يتبادلان المصالح والمنافع والأدوار فاستراتيجية النظام السوري وحلفائه تهدف بصورة أساسية إلى إعادة بناء النظام السلطوي القمعي عبر عمليات قمع وترهيب مضاعف ومشهدي لترميم جدار الخوف وكسر ما تبقى من المقاومة الصلبة التي باتت تتمركز في إدلب من خلال استهداف وإضعاف معنويات المدنيين وما تبقى من الحواضن الاجتماعية الشعبية للثورة السورية حيث يعاد استخدام تكتيك الرعب الكيماوي لاستعادة السيطرة على معظم أنحاء سوريا.
إن الحديث عن احتمال أن تكون العملية دبرها الجيش السوري قد تمت دون موافقة الأسد من خلال بعض الأطراف المرتبطة بإيران بهدف إظهار سيطرتها على النظام والانتقام من الروس الذين يفاوضون من وراء ظهر سوريا لا تتوافر على أدنى مصداقية فهي تفترض تضاربا في المصالح حد الصدام لكن الحقيقة أن الأسد وإيران والروس يختبرون الإدارة الأمريكية الجديدة ومدى اختلافها عن إدارة أوباما ويهذا وضعت روسيا وإيران من خلال الأسد أمريكا أمام مفارقة.
إن الرد الأمريكي الترامبي الرمزي على الهجوم الكيماوي يهدف إلى إعادة بناء الثقة في القوة الأمريكية التي تضررت مع إدارة أوباما الذي أظهر أمريكا ضعيفة وعاجزة عقب تصريحاته بأن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي يمثل "خطاً أحمرَ" التي أطلقها في آب/أغسطس 2012 حيث قام النظام السوري بتجاوز ذلك الخط مرات عديدة كما حدث في آذار/مارس 2013 في خان العسل بحلب عندما استخدم النظام غاز السارين وتسبب بسقوط 20 قتيلاً و80 مصاباً، وبلغت ذروتها في 21 آب/أغسطس 2013 عندما استخدمت قوات النظام غاز السارين في قصفها للغوطة الشرقية ما أوقع 1500 قتيل وإصابة أكثر من 5000 شخص معظمهم من الأطفال والنساء.
عقب المجزرة الكيماوية الأشهر في سوريا أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما في 1 أيلول/ سبتمبر 2013 عن قراره توجيه ضربة عسكريّة إلى النظام شرط تصديق الكونغرس وقد تراجع عن إعلانه عندما أعلنت روسيا مبادرة تقضي بوضع الأسلحة الكيماوية السوريّة تحت الرقابة الدولية وبسحبها وتدميرها في مرحلة لاحقة وقد صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 بالإجماع في 27 أيلول/ سبتمبر 2013 على خلفية التسوية الكيماوية التي تم التوصل إليها في جنيف يوم 14 أيلول/ سبتمبر 2013 بين روسيا والولايات المتحدة، ولذلك قام ترامب برد رمزي سريع مذكرا بخطوط أوباما الحمراء الباهتة لإظهار أن خطوطه الحمراء قانية.
إن الرئيس الأمريكي ترامب يبعث رسالة واضحة للشعب الأمريكي والعالم أن العظمة والقوة الأمريكية لا يجب الاستخفاف بها وأنه على خلاف سلفه يمكن أن يبدل رأيه في سبيل المصلحة الأمريكية ولذلك فقد كانت أولى ردود أفعاله أن الضربة الكيميائية قد غيرت موقفه من الأسد والذي كان قد عبر سابقا عن قبوله كشريك في "حرب الإرهاب" وكان هو نفسه قد صرح من خلال "تويتر" عام 2013 عندما كان أوباما يفكر في ضرب سوريا بالقول: مرة أخرى أقول لقائدنا الغبي، لا تهاجم سوريا، وإن فعلت فإن كثيرا من الأشياء السيئة ستحصل، ومن تلك المعركة لا تكسب أمريكا شيئا" وبعد فوزه صرح مع أركان إدارته أن إزاحة الأسد ليست أولوية أمريكية، وكان وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون قال خلال زيارته تركيا أواخر آذار/ مارس 2017 إن مصير الأسد يجب أن يقرره "الشعب السوري"، كما أكدت على ذلك سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي بقولها: "يجب على الجميع اختيار معاركهم"، معتبرة أن الأولوية لدى واشنطن هي عدم التركيز على رحيل الأسد.
لن تختلف السياسة الأمريكية في عهد ترامب بخصوص سوريا ومصير الأسد عن عهد أوباما فالولايات المتحدة حددت مصالحها في المنطقة بالحرب على ما يسمى "الإرهاب" والمحافظة على الأنظمة الدكتاتورية وحماية ورعاية إسرائيل وفي سورية تحديدا القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية وطرده من مدينة الرقة بالاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية بمكوناتها الأساسية الكردية وإقامة كيان كردي مستقر في شمال سورية يضم قواعد عسكرية أمريكية تهدف إلى الحد من النفوذ الإيراني وموازنة الوجود الروسي.
خلاصة القول لن يتغير شيء على مجريات الأزمة السورية بعد الهجوم الكيماوي لكن الهجوم شكل فرصة أمريكية لإعادة صورتها كقوة إمبراطورية عظمى تحرس النظام العالمي وتحول دون الإخلال بقواعده ويعتبر استخدام السلاح الكيماوي أحد خطوطه المحرمة منذ الحرب العالمية الثانية لاعتبارات عديدة ليس من ضمنها قدرته التدميرية بل أهواله الرمزية ولذلك يعتبر الغرب استخدام السلاح الكيميائي في سوريا تصرفا ممجوجا ومثيرا للاشمئزاز رغم ان البلاد ما زالت تشهد حربا ضروسا راح ضحيتها عشرات الآلاف في ظروف بربرية بأسلحة توصف بالتقليدية.