هناك العديد من الجدران التي تصطدم بها مشاريع التطهير والتفريغ السكاني في سوريا وتجعل منها محالا في المرحلة الحالية، أبرزها انتقال أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري إلى الأراضي اللبنانية مهددين التوازن الديموغرافي في لبنان معقل حزب الله، فتحول هذه الكتلة الضخمة إلى كتلة سياسية معبرا عنها من خلال مؤسسات مجتمع مدني وقوى مسلحة سيمثل تهديدا لسائر المكونات وعلى رأسها حزب الله ومشروعه في لبنان، ما يجعل من اللاجئين السوريين أحد الجدران الصلبة أمام أي مشروع تطهير طائفي في سوريا لخطورة ارتداده على لبنان والقوى الأساسية المنخرطة في الصراع، ولعلها إحدى التناقضات والمفارقات الغريبة في الأزمة السورية.
الجدار الثاني يتعلق بقدرة حزب الله وإيران على إحلال سكان جدد في المناطق المفرغة سكانيا في سوريا، فما تملكه إيران وحزب الله يقع بين 20 إلى 40 ألف مقاتل يتحركون في ظروف صعبة في الساحة السورية، ما يجعل من عملية الإحلال مسألة غاية في الصعوبة ومعدومة الفاعلية من ناحية واقعية، فالعبرة في التغيير الديموغرافي لا تقف عند حدود التفريغ بل بالقدرة على الإحلال السكاني بشريا واقتصاديا.
الجدار الثالث أمام مشاريع التفريغ السكاني والتغيير الديموغرافي تتمثل بحقائق تتعلق بهجرة ولجوء أعداد كبير من السوريين ومن ضمنهم العلويون والأكراد إلى أوروبا وتركيا وأرجاء واسعة من العالم، فالتفريغ السكاني يسير في كافة الاتجاهات ويلحق أضرارا كبيرة بالأقليات كافة لدرجة أن قدرتها على الإحلال السكاني تكاد تكون شبه معدومة وبلا معنى.
فما هو سر الجدل الكبير حول المشروع الإحلالي التفريغي لحزب الله وإيران وحقيقة المشروع الإيراني في ظل التغيرات الميدانية، هل هي لاعتبارات عسكرية وسياسية بحتة، أو لاعتبارات فعلا ديموغرافية إحلالية؟ ولماذا أثارت قدرا كبيرا من الجدل والتجاذب الذي هدد بمزيد من الانقسامات والشروخ في كافة المحاور والجبهات والتحالفات.
جدل هدد بحدوث اصطفافات جديدة في الساحة السورية بين الحلفاء والأعداء وأصبح محورا لصراعات واصطفافات جديدة، فجميع الأطراف تبحث عن اختراقات سياسية تتيح لها المجال المناورة السياسية والميدانية لأطول فترة ممكنة ويعيق عمليات الإقصاء أو الاستهداف، وهو مرتبط بهواجس ديموغرافية لا يقف الأكراد الانفصاليون بعيدا عنها في الرقة والقامشلي.
جدل الإحلال والتفريغ اشتعل بعد الإعلان عن اتفاق الفوعة -الزبداني بين حزب الله وفتح الشام وكلاهما مصنف جماعة متطرفة، كما تم الاتفاق برعاية قطرية بعيدا على الأرجح عن إرادة الروس والأمريكان ودون أن يعرف حجم الانخراط للنظام السوري في هذه الاتفاقات، معطيا الاتفاق مغزى سياسيا ومقدما رسائل لكافة أطراف الأزمة، فخلط الأوراق مسألة ليست بالمستحيلة في الحالة السورية في ظل غزل خجول يظهر في خطابات حسن نصر الله لفصائل المعارضة السورية بين الحين والآخر.
فالاتفاق سبقه تسريبات حول مفاوضات لعودة لاجئين سوريين من منطقة عرسال إلى داخل الأراضي السورية ومن ضمنها القلمون، مقابل إعادة انتشار لقوات حزب الله في بعض المعابر المحيطة في الغوطة ودمشق والقلمون، أمر وجد أثره في احد بنود اتفاق الهدنة (الفوعة- الزبداني)، والذي تضمن عودة خمسين أسرة سورية إلى الأراضي السورية بضمانات من حزب الله.
الاتفاق الذي أثار كثيرا من اللغط، اختراق تجاوز القوى الأساسية الدولية الفاعلة في الساحة السورية ومن الممكن أن يكون تجاوز النظام السوري نفسه وبرعاية قطرية تعرضت للتشكيك والهجوم من قبل فصائل من الجيش الحر، التي أصدرت بيانا يشكك في الاتفاق ويحذر منه ويدعو قطر لتقديم تفسير له، مضفيا مزيدا من الغموض والارتباك على المشهد السياسي السوري.
فبيان الجيش الحر جاء ليناقش مشروعية الاتفاق باعتباره تهديدا لوحدة سوريا وجزءا من مشروع إيران للتفريغ السكاني، غير أن البيان ترافق مع دعوة أمريكية لفصائل المعارضة السورية المعتدلة بالتوحد لمواجهة الجماعات المتطرفة مقابل الحصول على دعم لوجستي ومالي من الممكن أن يتوقف في حال عدم توحدها وتنسيقها مع الإدارة الأمريكية لمكافحة التطرف وعلى رأسها فتح الشام، منذرا باقتتال داخلي عنيف بين فصائل المعارضة في الشمال السوري، ومعبرا عن استياء أمريكي وروسي في ذات الوقت من إمكانية الوصول إلى توافقات حول المعارك والهدن بعيدا عن الإرادة الروسية والأمريكية بين حزب الله وأجنحة في المعارضة السورية معطيا مغزى سياسيا لهذه الجدلية المتشكلة.
إذ ما لبثت الانتقادات أن تصاعدت حتى نشرت بنود الاتفاق المتعلق بهدنة (الشهور التسعة) بين فتح الشام وحزب الله في سوريا، وبرره المشاركون بأنه يحد من معاناة السكان ولا يتضمن عملية تفريغ سكاني، إذ إن المقاتلين فقط هم من سيخرجون من الزبداني ومضايا مع أعداد قليلة من المدنيين إلا أن الخروج الأكبر سيكون من كفريا والفوعة والمقدر بـ16 ألف من مقاتلي النظام وحزب الله والمدنيين، محسنا من القدرات العسكرية ورابطا بين أراضي المعارضة السورية في الشمال بما يسمح بالتفرغ لمواجهة الأكراد الانفصاليين.
جدل الديموغرافيا والمشروع الإيراني يعاني من قصور وجدران ديموغرافية عالية بنيت على أسوار سوريا مضيفة جدران جديدة في لبنان، قصور يمتد إلى إدخال المتغيرات الدولية والإقليمية والميدانية التي تلعب دورا في حسابات القوى المنخرطة في الصراع السوري، ما يعني أن عملية تقييم المشاريع الكبرى يجب أن يتعاطى مع حقائق الأرض والميدان.
وفي ضوء ذلك تظهر الديموغرافيا وما ارتبط بها من حراك كورقة تكتيكية وليست استراتيجية توظفها الأطراف المتصارعة لتحسين أوضاعها الميدانية تكتيكيا وليس استراتيجيا، فالديموغرافيا في سوريا ستبقى عصية على المشاريع الإحلالية، ما يجعل منها ورقة مناسبة لخوض الصراعات بين المتنافسين في المعسكر ذاته، وورقة مناسبة أيضا لتحسين الظروف الميدانية للمتصارعين لمواجهة الظروف المتغيرة ونزع الدسم عن محاولات العزل والمحاصرة، وهو ما يعاني منه حزب الله وفتح الشام في الوقت الحالي.
ولعله الإجابة المؤقتة على حقيقة هذه التفاهمات، والتي لا تعني بأن لها أبعادا استراتيجية مستقبلية قابلة للتوسع، وإن كان احتمالا كسائر الاحتمالات في الصراع السوري الممتد، كاحتمال توافق فصائل الجيش السوري الحر مع قوات قسد اليوم بعد معارك دامية بينهما بالأمس القريب إن لم يكن الساعات القليلة الماضية والتي سيكون لها انعكاسات واسعة على التحالفات الإقليمية والدولية حالها كحال التفاهمات بين حزب الله وفتح الشام التي تركت إرهاصات على السياسة الروسية والأمريكية والتركية، دوامة سياسية لا نهاية لها من عملية المتابعة والتحليل، فالتشكل بات مفهوما هلاميا بلا زوايا سياسية واضحة في سوريا.
السبيل الأردنية