لا شك أن العراق دخل خيمة المعالجات الدولية، وقد وضع ترامب بسياسته الجديدة "داعش" والمليشيات الشيعية في خانة واحدة، وهي خانة الإرهاب، مع تصنيف إيران دولة راعية لذلك الإرهاب، وهو ما يُعد إعلانا بفشل ما سعت إليه طهران طوال عقد من الزمن بعد عام 2005م، لعرض نفسها على أنها طرف إقليمي يمكن الاعتماد عليه في محاربة الإرهاب، وأن على الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي التعاون معها أو توظيفها خدمة للقضاء عليه.
إيران متوجسة من سياسة ترامب الجديدة والتوجه الإقليمي بشأن تحجيم نفوذها ومحاربتها لإرهاب "داعش" بإرهاب المليشيات؛ لذا سعت القوى الشيعية العراقية في الأشهر الماضية إلى تمرير قانون الحشد الشعبي داخل البرلمان؛ سعيا منها لقوننة عملها، وإن لم تسقط عنها صفة المليشيات نهجاً وسلوكاً وأجندات.
لقد سعت القوى الشيعية لجعل امتيازات "هيئة الحشد الشعبي" شبيهة بامتيازات "جهاز مكافحة الإرهاب" بشكل خاص؛ فقد صُنف الحشد الشعبي على أنه جهاز أو هيئة تُحارب الإرهاب ويتحرك وفقا لأي تهديد إرهابي، ومرتبط مباشرة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، وله ميزانية مستقلة عن وزارة الدفاع بالرغم من أنه جزء منها، لكنه لا يخضع لها ويتمتع باستقلالية في الحركة، إضافة إلى فتح مكاتب له في عدد من المحافظات العراقية.
إن جميع تلك الامتيازات المذكورة هي امتيازات جهاز مكافحة الإرهاب مع ميّزة إضافية للحشد الشعبي، وهي أن جهاز مكافحة الإرهاب يعد قوة ضاربة فقط لا تُمسك أرضاً بعد استعادتها، بينما يستطيع الحشد الشعبي مسك الأرض لاحتوائه على قوات متنوعة ومتعددة.
سيشكل سياق التنافس الأمريكي- الإيراني عبر الذراعين الأمنيين لمكتب القائد العام للقوات المسلحة "رئيس الوزراء"، بوابة لخارطة توزيع النفوذ العسكري والأمني لمرحلة ما بعد "داعش" من خلال الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهاب، فالحشد مُشكل من مليشيات صنعتها ودربتها ومولتها وتشرف عليها إيران ومن يمثلها في العراق، بينما صنعت ومولّت ودربت الولايات المتحدة جهاز مكافحة الإرهاب ولا تزال تشرف عليه حتى الآن مع الحكومة العراقية.
هذان الذراعان المرتبطان برئيس الوزراء لا يستطيع أي رئيس وزراء قادم تحريكهما بشكل مستقل؛ إلا وفقاً للمجال الحيوي للنفوذ الإيراني والمصالح الأمريكية، فالأول يمثل نفوذ إيران والثاني يمثل نفوذ الولايات المتحدة.
ويعد جهاز مكافحة الإرهاب من أقل الأجهزة طائفية وأعلاها مهنية، وهو قوة ضاربة ومن أقوى الأجهزة العراقية، والتي لا تتحرك إلا بأمر قضائي أو وفقاً لأي تهديد يتعلق بالإرهاب؛ وسيكون مجاله الحيوي: المناطق والمحافظات السنية التي استعادها من "داعش"، وهي نفسها مناطق الأقاليم السنية المفترضة التي تسعى القوى السنية لتحقيقها مع ربطها بإقامة علاقات مع دول الإقليم خاصة محور الخليج- تركيا؛ لتكون مناطق نفوذ عربي- تركي ومحطة انطلاق لمواجهة النفوذ والمد الإيراني.
لقد اكتسب جهاز مكافحة الإرهاب شرعية وشعبية لدى السكان المحليين السنّة بعد أن خلصهم من جحيم "داعش"؛ أما الحشد الشعبي فقد أكتسب شعبية وشرعية في المحافظات الجنوبية جراء ما يعتبرونه تضحيات قدمها لهم، ولكنه منبوذ في المناطق السنية لمحاربته إرهاب "داعش" بإرهاب ميليشياته واعتماده على مبدأ "التحرير بالتدمير"، لذا لن يكون له وجود حقيقي وإن وَظّف الكثير من المليشيات السنية أو مليشيات الأقليات في بعض المناطق السنية لصالح أجنداته.
يتجّه السياق الدولي والإقليمي باتجاه عودة الدولة العراقية أو إيقاف انحدارها نحو الفشل، وهذا يتطلب إشراك العرب السنة بصورة فاعلة، مع تحجيم النفوذ الإيراني ومحاربة المليشيات الشيعية التي ربما ترفض الرضوخ للدولة ونهجها الجديد، كما ترفض السياق الإقليمي والدولي، خاصة أن بعض المليشيات ذات الولاء المطلق لإيران (عددها 7) لم تُضم داخل هيئة الحشد الشعبي ولم تغطى قانونيا.
أمام إيران خيار صعب؛ إما التضحية بمليشياتها ذات الولاء الصرف لها؛ أو تكون هناك صولة وجولة أخرى لجهاز مكافحة الإرهاب في بغداد والجنوب العراقي ضد تلك المليشيات، بالتعاون مع من لديه الاستعداد للتعاون مع الدولة من نفس اللون الطائفي، ولديه الاستعداد أيضاً للانضواء تحت أوامر الدولة لمحاربة المليشيات التي لا ترغب بعودة الدولة والقانون والدستور، التي قد تتمثل بميليشيا "سرايا السلام" التابعة لمقتدى الصدر والتي تنافس وتعادي الكثير من المليشيات التابعة لنفوذ إيران، وبذلك ستكسب الولايات المتحدة عن طريق جهاز مكافحة الإرهاب نفوذا أمنيا وعسكريا في مناطق جديدة لطالما بقيت مصنفة في مجال نفوذ إيران الحيوي.