من بين القضايا التي يعالجها تقرير وقفية كارنيجي «انكسارات عربية» (الذي أنجزته مجموعة من الباحثين كنت من بينهم) والتي لا يشي بها عنوان التقرير، يأتي في موقع متقدم تحليل إيجابيات الحراك الاجتماعي المستمر لقطاعات واسعة في المجتمعات العربية.
فلم يستطع المواطنون العرب، منذ عقود، النفاذ إلى عمليات صنع القرار العام، والفضاءات السياسية الرسمية، وآليات الكشف الفعال عن نواحي القصور في العمل الحكومي.
ومع ذلك، لم يقف المواطنون موقف المتفرج السلبي من التطورات التي تمس بلدانهم، واستخدموا الأنشطة السلمية للتعبير عن همومهم. والواقع أن المواطنين الشباب وجماعات من نشطاء المجتمع المدني والحركات العمالية كانوا يتصدرون حركات الاحتجاج السلمية المعارضة لاستمرار الوضع القائم، والتي بلغت ذروتها في الانتفاضات العربية العام 2011. كما شدّدوا على المطالبة بتحسين الأحوال المعيشية المتدهورة ومحاربة الفساد والمحسوبية، وإلزام الحكومة باحترام حقوق الإنسان.
كانت الاحتجاجات واسعة الانتشار قبل العام 2011. فقد كانت من تشكيلة الأدوات التي استخدمها الناشطون الشباب للتنديد بما مُنيت به حكومتهم من إخفاقات. وكانت التظاهرات الاحتجاجية التي تتمحور حول المطالب السياسية أقل تواترا، غير أنها كانت تحدث في جميع الحالات، مؤذنة بولادة نوع جديد من الحراك والمشاركة الجماهيريّين. وحرص الناشطون الشباب والأكثر رسوخا في المجتمع المدني وفي الأوساط العمالية، والروابط المهنية، والجماعات الطلابية على تجاوز الفجوة الدينية والعلمانية وانضموا إلى هؤلاء ليؤسسوا شبكات غير رسمية للاحتجاج. وقد قطعوا صلتهم بالسياسات الرسمية، داخل النظام والمعارضة على السواء، وكرّسوا طاقاتهم للعمل من خلال الجمعيات والمنتديات العربية واستخدام الاحتجاجات السلمية وتكنولوجيا الاتصالات.
وشملت هذه المجموعات حركة شباب 6 أبريل، حركة كفاية، والجمعية الوطنية من أجل التغيير في مصر؛ والحملة الوطنية للدفاع عن حقوق الطلاب واتحاد الطلبة الديمقراطيين في الأردن؛ و»الجمعية الوطنية لحملة الشهادات في المغرب؛ وغير هذه المجموعات على امتداد بلاد العرب.
لعبت الثورة المصرية الدور الأبرز في تبيان أهمية الحراك الجديد في أوساط المواطنين العرب. فقد استلهمت دعوة المصريين للاشتراك في الاحتجاج السلمي ثورة الياسمين التونسية، وتداعت لنصرتها شبكات الاحتجاج غير الرسمية. ومع أن أكثر تيارات المعارضة السياسية الرئيسية رفضت المشاركة أول الأمر، إلا أن الناشطين الشباب تمكّنوا تدريجيا من حشد شرائح سكانية للانخراط في حركات الاحتجاج السلمية.
فيما شكّلت استقالة الرئيس السابق حسني مبارك في شباط/فبراير 2011 ذروة نجاح الحراك الاجتماعي العربي، ووجِهت الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الدكتاتورية في دول أخرى بقوة وحشية، كما في ليبيا وسوريا. فقد تبدّد زخم الاحتجاجات، واستعادت قوى الأمن قدراتها في مختلف أرجاء المنطقة. وسيُصار لاحقا إلى حل القضايا المتصلة بالاضطرابات.
وعلى الرغم من الاختلاف والتناقض بين الاتجاهات التي اتخذتها البلدان العربية بعد الانتفاضات الديمقراطية في العام 2011، لايزال الحراك الاجتماعي يرسم معالم الواقع على الأرض. ففي تونس، دخل الشباب التونسيون حلبة النشاط السياسي النظامي وحافظوا على حضورهم القوي في الفضاءات غير النظامية وفي ساحات الاحتجاج على حد سواء، يدفعهم إلى ذلك، أساسا، الإحساس بالإحباط الاقتصادي والسياسي.
وفي البلدان التي استنفد الصراع طاقاتها، تركّز منظمات المجتمع المدني اليوم على إيجاد ملاذات آمنة لضمان بقائها على قيد الحياة. ومع استمرار القمع الوحشي، سيكون من الصعب على السكان العرب المشاركة في أي مناقشات مفيدة أو ذات دلالة حول العناصر الرئيسية في عقود اجتماعية جديدة. ففي مصر، قامت الحكومة المسيطر عليها عسكريا وأمنيا بتضييق الخناق على التعددية السياسية، وفرضت قيودا مشدّدة على منظمات المجتمع المدني. غير أن ذلك لم يحل دون مواصلة الشباب المصريين المشاركة في فضاءات الاحتجاج غير النظامية، كما لم يؤثر على الطابع المتجاوز للأيديولوجيات لحراك المواطنين الاجتماعي.
وهكذا لجأت شبكات وحركات شبابية إما إلى توسيع أدوارها في فضاءات عامة جديدة كالمجالات الفنية أو الأدبية، أو أعادت اكتشاف معاقلها التقليدية في الجامعات والمدارس الثانوية. بين السينما البديلة والروائيين والطلاب الجامعيين تتشكل السرديات الثورية الجديدة التي لا تقتصر على المطالبة بإصلاحات ديمقراطية جذرية وحسب، بل تدعو كذلك إلى بلورة رؤية لمصر المستقبل العلمانية الحديثة.
وفي سوريا واليمن، استمرت مبادرات المواطنين في هذا الميدان، على الرغم من الحروب الأهلية الوحشية، واستأنفت المنظمات المحلية غير الحكومية وجماعات الناشطين في الإعراب عن الاحتجاج الشعبي، وسهّلت تقديم المساعدات الإنسانية للسكان الذين حاصرتهم الحرب.
وعلى الرغم مما تتّسم به القوى الرافضة للوضع الراهن من مرونة وقدرة على التكيّف، إلا أن قوى الأمر الواقع قد استعادت الزخم القديم. ذلك أن الرغبة في الاستقرار وغلبة التيار المعاكس للنشاط الديني السياسي في مصر، ناهيك عن الفوضى في سوريا واليمن، دفعا شرائح مهمة من السكان العرب إلى تبني موقف الحكام المستبدين الذين يعارضون المطالبة بالتغيير. وكان من نتائج المشاهد المفزعة للحروب الأهلية إقناع الكثير من العرب بالحاجة الماسّة إلى الاستقرار. وقد استغل المستبدون هذا الشعور فانبروا للدفاع عن حكمهم والأوضاع الراهنة باعتبارها الأسلوب الوحيد لتحاشي البلبلة والفوضى.
غير أن الفاعلين المدنيين يواصلون المشاركة باستخدام مختلف المنتجات التكنولوجية الحديثة ووسائل الإعلام الاجتماعي، حتى في هذه الأوضاع العصيبة. وحتى بعد إغلاق منافذ الإصلاح السياسي، تعاظمت أهمية الدفاع عن الحريات الشخصية عبر إطلاق حملات مطلبية ومبادرات من جانب المواطنين. وما زالت الفرص المتاحة لتحقيق التقدّم مجدية ومجزية في مجالات عدّة من بينها، على سبيل المثال، النضال لتمكين النساء، وتحسين الأوضاع في مواقع العمل، وتحديث المناهج التعليمية، وتشجيع إجراءات محاسبة الفساد.
وفي حين أن القوى المساندة للوضع الراهن أصبحت لها اليد العليا، على ما يبدو، في أغلب البلدان العربية، من المستبعد أن يستكين المواطنون العرب لهذا الوضع، بينما تتصاعد الضغوط الاقتصادية الاجتماعية وتتحجم المعونات الاجتماعية خلال السنوات المقبلة. وهم لا يتوقّعون من الحكومات، والمؤسسات الحاكمة، والمؤسسات الرسمية، أن تؤمن لهم احتياجاتهم الأساسية، أو أن تنقذ المجتمعات من أزماتها المستمرة. ومن هنا، سيلجأ المواطنون باطّراد إلى الحراك الاجتماعي، ولو بأشكال مختلفة عن تلك التي ارتبطت بالربيع العربي، للتأثير في مصير بلدانهم.