منذ أن فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، احتلت عملية استشراف سياساته وتوجهاته في التعامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيزا كبيرا من تحليلات المحللين والمراقبين، واليوم بعد حفل تنصيبه وبدء عمله رسميا، تنصب الجهود التحليلية لمعرفة ما إذا كانت تلك الاستشرافات صحيحة أم لا؟ وأنه هل ما بني من تحليلات على تصريحات ترامب الانتخابية، هو نفسها بعد التنصيب؟ وهل سينتقل ترامب من القول إلى الفعل فيما يتعلق بتوجهاته المعادية لإيران؟
رغم أن كلمة دونالد ترامب في حفل التنصيب، خلت من الإشارة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلا أن إصدار بيان للبيت الأبيض بعيد التنصيب بدقائق محدودة جدا، حول نية الإدارة الأمريكية الجديدة تطوير نظام دفاع صاروخي "متطور" للحماية مما وصفه بالهجمات من إيران وكوريا الشمالية، له مدلولات سياسية، منها أن إيران بعد أن احتلت حيزا مهما في أقوال ترامب الانتخابية، اليوم تنال النصيب الأول من أفعال إدارته.
يبدو أن هذا البيان صدر من منطلقين، "التخويف" و"الوعيد"، فالأول موجه للشعب الأمريكي الذي أرادت إدارة ترامب تخويفه من إيران وفق إستراتيجية "أمريكا أولا"، منها الأمن، ولعل الهدف من وراء ذلك هو تبرير استباقي لسياسات عدائية عملية تجاه هذا البلد، وفق متطلبات هذا الخوف، ثم الثاني (الوعيد) موجه للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويحمل رسالة، فحواها أن دونالد ترامب دشّن عهده وسياسته الخارجية الشرق أوسطية بإستراتيجية "إيران أولا"، مما قد تترتب على ذلك إجراءات تترجم وعوده الانتخابية.
بالمجمل، هذا البيان يمثل مؤشرا عمليا، يثقل كفة التحليلات الاستشرافية التي توقعت أن الإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترامب، يختلف سلوكها إزاء طهران عن سابقتها جذريا، مما ينذر باحتمال تبني سياسة أكثر عدائية تجاه طهران مقارنة بالإدارات الأمريكية السابقة.
ولأنه لم تمض سوى أيام معدودة على تنصيب ترامب، لا يمكن أن يمثل هذا المؤشر معيارا علميا دقيقا لتشخيص دقيق للتوجه الأمريكي في إدارة ترامب تجاه الجمهورية الإسلامية مسبقا، لذلك مرة أخرى نلجأ لسلاح الاستشراف المسنود بمؤشرات قوية للخروج بنتيجة قد تساعدنا في الوصول إلى تصور تحليلي حول طبيعة التوجه الترامبي نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
عموما، ثمة محددات على الأغلب ترسم السياسة الخارجية الأمريكية خلال المرحلة المقبلة في التعامل مع طهران، أهمها:
1ـ "المحدد التاريخي": العداء التاريخي الذي يتحكم في العلاقات الإيرانية الأمريكية بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، قائم ولم يتغير، حتى الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" الذي وعد خلال حملته الانتخابية قبل أن يصبح رئيسا بفتح صفحة جديدة مع طهران، عندما استلم الرئاسة كانت سياساته محكومة بهذا العداء، فأقرت أسوأ عقوبات أمريكية أو أممية ضد إيران في عهده. والاتفاق النووي الذي وصلت إليه إدارته جاء من منطلق هذا العداء، ولم يكن حبا في إيران، بل أنه جاء وفق استراتيجية وجدها أوباما، الأفضل لمواجهة "العدو الإيراني".
هذا المحدد الثابت في العلاقات الأمريكية الإيرانية، يخضع حسب الظروف والمراحل لمتغيرات تؤثر في رسم ملامح هذا العداء دون إحداث تغيير في جوهره. اليوم هذا العامل يفترض أن يكون حاضرا بقوة في سياسات ترامب، على ضوء وجود عوامل أخرى تعززه بشكل كبير جدا، التي بمجملها ستحدد وجهة العداء الذي ستحكم العلاقات خلال السنوات المقبلة.
2ـ "المحدد الفني": هذا العامل يعود إلى تركيبة الإدارة الأمريكية الجديدة التي يطغى عليها "إيرانوفوبيا" بدء من الرئيس ترامب الذي لم يغير من خطابه العدائي، ووصولا إلى أعضاء فريق عمله، الذين إن اختلفوا في وجهات النظر في قضايا داخلية وخارجية، إلا أنهم مجمعون على "معاداة إيران"، و"الإسلام السياسي"، الذي يوصف ضمنه نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا ما يظهر جليا في تصريحاتهم ومواقفهم، قبل وبعد أن يختارهم دونالد ترامب كأعضاء فريقه.
كما أن تركيبة الإدارة الجديدة تمثل عودة حادة إلى العقلية التي سادت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهذا لا يبشر بخير على الإطلاق.
هنا، على سبيل المثال، وليس الحصر، نستعرض مواقف أهم أعضاء الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية:
أولا: نائب الرئيس الأمريكي "مايكل بنس":
ـ يؤيد مهاجمة "إسرائيل" أهداف إيرانية لمنعها من "تطوير أسلحة نووية"
ـ يهاجم الاتفاق النووي مع إيران، ويعتبره ضد مصلحة "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية
ثانيا: مستشار الأمن القومي "مايكل فلين":
ـ يعارض الاتفاق النووي الإيراني
ـ له تصريحات قوية ضد الإسلام السياسي
ثالثا: رئيس CAI "ميك بومبيو":
ـ في تغريدة يتطلع إلى "إلغاء الاتفاقية الكارثية مع أكبر دولة راعية للإرهاب"، في إشارة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
ـ وفي تغريدة أخرى، دعا إلى فرض عقوبات على برنامج التسلح الإيراني، وأنه يعد أمرا أساسيا لحماية أمن أمريكا
ـ انتقد تعامل أوباما مع إيران، قائلا: إيران تتخذ رهائن أمريكيين، وحلفاؤهم يقصفون السفن الحربية الأمريكية، بينما تعمل قيادتنا بقوة لإخراج الاقتصاد الإيراني من مأزقه.
رابعا: وزير الدفاع الأمريكي "جايمس ماتيس":
ـ يتهم إيران صراحة بمحاولة اغتيال عادل الجبير في واشنطن
ـ يرى أن السبب الوحيد الذي يجعل بشار الأسد لا يزال في السلطة هو إيران.
ـ يطالب بمعاقبة طهران وحلفائها بسبب تهديداتهم لدول المنطقة.
ـ طرح فكرة القيام بعمليات سرية لاعتقال أو قتل قوات إيرانية ومواجهة زوارق الحرس الثوري في المياه
الخليجية.
ـ يعارض بشدة الاتفاق النووي مع إيران.
خامسا: وزير الأمن الداخلي "جون كيلي":
ـ من دعاة التشدد والتصعيد تجاه إيران
ـ من المناهضين لاتساع النفوذ الإيراني في أمريكا اللاتينية، حيث قال للكونغرس الأمريكي: "كونها
(إيران) أكثر دولة راعية للإرهاب، فان تدخلها في منطقة أمريكا اللاتينية وفي المراكز الاجتماعية هناك، هو أمر مثير للقلق، وعلينا مراقبة دورها الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي."
3ـ "المحدد الإسرائيلي"
هذا العامل يشكل أحد ركائز ومحددات السياسة الشرق أوسطية للولايات المتحدة الأمريكية منذ ستينيات القرن الماضي، ومن هذا المنطلق ترسم علاقاتها مع دول المنطقة، منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ترفع راية العداء للكيان الصهيوني منذ عام 1979.
الجديد في هذا الخصوص، أن ثمة مؤشرات تبعث على القناعة أن هذا العامل على الأرجح سيكون له دور أكبر خلال المرحلة المقبلة في رسم ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، ولاسيما في التعامل مع إيران.
أهم هذه المؤشرات تتمثل في:
أ: قرب دونالد ترامب ومعظم أعضاء إدارته ولاسيما من يشغلون مناصب حساسة منهم، إلى اليمين الصهيوني المتطرف، وهذا تجلى أولا في وعد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس قبل الانتخابات وتأكيده على ذلك بعد الفوز حسب صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، ثم توجيه الدعوة لزعماء مجلس المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية للمشاركة في حفل التنصيب في سابقة نادرة، كذلك الحديث عن "الإرهاب الإسلامي" في حفل التنصيب، والذي يشكّل ركيزة مهمة في الخطاب الإعلامي والسياسي لليمين الإسرائيلي.
ب: تقاطع تصريحات دونالد ترامب ووزرائه الأساسيين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف بنيامين
نتنياهو ووزرائه المتطرفين في معاداة إيران والاتفاق النووي الإيراني. هذا التقاطع، دافعه ليس الاتفاق نفسه، بل يتعدى ذلك إلى الفكر اليميني المتزمت الذي يرى أنه لا ينبغي التعامل مع "العدو الإيراني" من منطلق الاتفاق والتوافق أيا كان شكله، بل من خلال لغة "القوة" و"التهديد" و"الخيارات تحت الطاولة".
وفي هذا السياق، لا يبدو غريبا أن ينشر رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" ملف فيديو بعد يوم من تنصيب ترامب، وقبيل اتصاله مع الأخير، يخاطب فيه الشعب الإيراني لأول مرة، حيث هاجم فيه الحكومة الإيرانية، واستعطف مشاعر شعبها.
كما أنه حسب ما ورد في بيان البيت الأبيض حول فحوى هذا الاتصال الهاتفي، إيران شكلت محور هذا الاتصال، ويفترض أن يتناولها الجانبان بإسهاب في لقاء يجمع بينهما قريبا. جملة هذه المؤشرات تعني أن الكيان الصهيوني يستغل التوجه اليميني للإدارة الأمريكية الجديدة لإعادة ترتيب الأولويات للسياسية الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، ورسم ملامحها بناء على إستراتيجية "إيران أولا" من منطلق عدائي بحت.
4ـ "المحدد الروسي"
هذا المحدد يعتبر سلاح ذو حدين، أي أنه يمكن أن يكون لصالح إيران أو ضدها، بمعنى أن العلاقات الأمريكية الروسية إذا طغت عليها حالة العداء تكون طهران المستفيد الأبرز من ذلك، ثم إذا طغت عليها حالة الصداقة والتعاون، قد تكون طهران الخاسر الأبرز.
ثمة مؤشرات تظهر أن دونالد ترامب لا يرغب في استعداء روسيا، وأنه يتطلع إلى التعاون معها، ولعل المغازلات بين ترامب وبوتين خلال الفترة الماضية سواء قبل الانتخابات الأمريكية أو بعدها، ثم إعلان بيت الأبيض بعد أيام من تنصيب ترامب حول استعداد الإدارة الأمريكية الجديدة للقيام بعمليات مشتركة مع روسيا في سوريا، تأتي في سياق رغبة الطرفين في فتح صفحة جديدة في العلاقة تختلف عن أيام الرئيس أوباما.
ومن جانب آخر، رغم إدلاء نائب الرئيس الأمريكي الجديد بتصريحات ضد روسيا وبوتين سابقا، إلا أن ما صدر من أغلبية أعضاء الحكومة الأمريكية وعلى رأسهم ترامب نفسه، يوحي بتأييدهم الحوار مع موسكو، والتعاون معها لحل الخلافات الثنائية والتعاطي مع القضايا ذات الاهتمام المشترك، منها القضايا الشرق أوسطية.
من هؤلاء المسؤولين الأمريكيين الجدد، وزير الخارجية "ريكس تيليرسون" الذي يُعرف بعلاقاته القوية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي منحه بدوره وسام الصداقة الروسية بعد عدة سنوات من مشاريع شركة "اكسون موبيل" الذي يرأسها تيليرسون في البلاد، وله مصالح اقتصادية معتبرة في روسيا، وكان من معارضي العقوبات عليها عام 2013، كما أن الكرملين رحب بتعيينه وزيرا للخارجية قائلا: أنه مهني ويقيم علاقات عمل جيدة مع الرئيس بوتين.
ثم أن مستشار الأمن القومي "مايكل فلين" يعد من أهم دعاة التقارب مع روسيا ورفض اتخاذ مواقف معادية لها، ثم أنه قال: "لنكن واقعيين علينا أن نتعاون مع موسكو لحل الأزمة السورية، ولا يمكن أن نطلب من الروس أن يعودوا إلى منازلهم لأن ذلك لن يحدث إطلاقا."
هذه المؤشرات إلى جانب بوادر الخلافات الإيرانية الروسية حول سوريا، التي أكدها الكرملين قبيل انطلاق مفاوضات آستانة، والعلاقات الروسية الإسرائيلية الوطيدة، توحي بأن الفترة المقبلة على الأغلب تشهد تقاربا أمريكيا روسيا، فإن حصل ذلك بالفعل، على الأغلب ستكون طهران أول من يتضرر من ذلك، وأن "المساومات" في ملفات عدة، منها الملف السوري قد تكون أول فصول هذا التقارب.
ومن جانب آخر، أمريكيا، التعاون الأمريكي الروسي مرتبط بإنهاء روسيا التعاون مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المنطقة، حسب ما قاله مسؤولون مقربون من دونالد ترامب لوكالة بلومبيرغ الأمريكية قبل أيام.
عموما رغم هذه المؤشرات، لا يمكن الجزم بأن هذا المحدد سيكون لغير صالح إيران خلال الفترة المقبلة، لأن وجهته ليست واضحة حتى اللحظة، وهي مرتبطة بعاملين: الأول، مدى استعداد واشنطن للتجاوب مع روسيا بشأن قضايا خلافية، والثاني، مدى استعداد موسكو للتخلي عن التعاون مع إيران لصالح العمل المشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك فيما يتعلق بالمحدد الروسي فإن الترقب الحذر هو سيد الموقف.
الختام
خلاصة القول إنه في ظل هذه القراءة المدعومة بأدلة ومؤشرات قوية، على الأغلب تتخذ العلاقات الإيرانية الأمريكية بعدا أكثر عدائية في عهد الرئيس ترامب، مما قد يُترجم ذلك أكثر في تبني توجه وسلوك تصعيدي تجاه طهران، قد يصل إلى مراحل خطيرة، ولاسيما قد يروق لهذه الإدارة التركيز على العدو الخارجي أكثر، كلما تتسع رقة الاحتجاجات على سياسات ترامب خلال المرحلة المقبلة.