كيف لنا اجتياز الحد الفاصل بين هوية المثقف وهمومه المثقلة بتباريح وعذابات جمة، يعبّر عنها بأي شكل يروق له، ويزوده بالمؤونة الملائمة للتواصل بالآخرين، مفكرا كان أم شاعرا أم روائيا، وبين الهوية الأشمل التي باتت مثل «إكسير» الحياة المفقود وضاع بين نظريات غير قادرة على الإفهام أو الإقناع؟
هذا المثقف الذي كان في حقبة ما طريدا أنهكته دروب البحث الوعرة حتى تاه بين أزقتها وحواريها، تلاطمه كل المطارات العالمية بحثا عن مأوى أخير يلجأ إليه وطنا بديلا، يتدثر به حتى يأتي يوم انعتاقه ويعود مظفرا بهوية وطن على مقاسه، ومع ذلك لا ينفك باحثا عن «الهوية»، تلك المتجذر همها في دماغه حتى أعجزته العبارات المرتبطة بكل شيء إلا المعنى الحقيقي للهوية الثقافية ذاتها.
كلنا يذكر كيف انبرى مثقفو ما بعد الاستعمار للبحث عن معنى الهوية وارتباطاتها.. الهوية العربية.. الهوية الإسلامية.. الهوية القومية، فالتبست هذه الرؤى بالشخصية الاعتبارية للأمة أو الوطن، كما أننا نحن هنا استمرأنا -ولا أدري كيف- الخصوصية السعودية، باعتبارها معيارا يقاس من خلاله كل منتج ثقافي أو معرفي جديد، ونسينا صناعة الأنموذج لهذه الخصوصية، لنعرف حدودها ومعالمها ومحتوياتها، من يدخل فيها ومن يخرج منها، وهل هو يعبر عن جزء من كل أو كل من جزء، حتى ارتطمنا أخيرا بالاعتراف شبه الرسمي بأن «لا خصوصية سعودية».
إذا، ماذا سيعني «الوطن» للمثقف ما لم يتماس مع كل تفاصيله المادية والمعنوية كي يستطيع تأويل مصطلح الخصوصية ومن ثم فلسفتها معرفيا وفق رؤى مدروسة، بحيث يسهم في صياغة أكثر حداثة وفاعلية تستجيب لقيم التحول والتغيير؟ قد يكون هو الأقرب في ظل كل التداعيات العالمية وانفراج أقدام العالم العربي لكل شيء يأتي من البعيد الذي أصبح قريبا جدا من عمقه أو أنه غاص فيه داخل معمعة هذا البحث المتوثب لاكتشاف ذلك الأنموذج الذي يعتمد عليه. تلاشى المثقف نفسه وأصبح مثل زيف تحمل أعباءه الأمة التي تشاكست في كل شيء حتى أسماءها وأسماء شوارعها ولوحات سياراتها.
بين كل هذه الأنقاض نقول بعبارة أخرى تاه المثقف، ولنقترب أكثر إلى حدود التماس مع المثقف السعودي المهجوس دائما بالوطن وهوية الوطن وخصوصية الوطن، خصوصا أولئك الذين علقوا مآسيهم على تلك الأعين الرعناء والعقول الضيقة والنفوس الفضة التي تحاول استلاب أدواتهم وتكسير أقلامهم ودلق محابرهم. لم تشفع لهم ثقافتهم أو حتى وطنيتهم بأن يمارسوا حياتهم المثقفة من دون انسياق للتيار الأقوى، إذ استشعروا بأنهم بما يمثلونه من قيمة مطلقة مصادرون مثل أي كتاب يعثر عليه عند نقاط التفتيش. هنا تختل القيم والمفاهيم فتصبح الثقافة مجسدة في ذات تحدد معالم الهوية وفق أنموذج خاص لمعنى وطن.
صراحة أكثر فشلنا في استخراج مفهوم الثقافة الأعم من عباءة المثقف الخاضع لكل تقلبات الأمزجة والأهواء التي تتجافاها الحكمة ويند عنها الصواب. في خضم هذا الشتات توارى كثير منهم، أسماء مهمة غيبها الواقع، فلم تعد مضيئة كما كانت، لا أتحدث هنا عن شكل الأدب بصفته منجزا نهائيا مضمنا في كتاب، ولا أتحدث عمن اقتحموا فلك الثقافة كي يجردوها من معناها البنائي الحقيقي ويثبتوا انضواءهم تحت تقسيمات إثنية (عرقية وطائفية، وقبلية)، فهؤلاء أدوات تحرك عن بعد من أجل خلق صراعات وإثارة الفتن، وتنتهي علاقتهم تماما بالمعنى الأسمى والأجل للثقافة حالما تنتهي مهمتهم. ومع هذا نسأل: لم الخوف والقلق من المثقف الحقيقي؟ لم يحاصر ويجعل في خانة المشتبه به دائما؟ إلا أنه يبحث دائما في عمق الأشياء المثيرة للجدل عن هويته التي باتت في حيز متخلف من العالم بلا صدقية ومعقولية عجزت عن مساكنة الناس بالعقل والمنطق.
اصطدم المثقف الحقيقي بخصوصيات تشكلت منها هويات غير متوازنة، نراها اليوم تهترئ وتتفكك عراها، ومع ذلك يُسحب عنوة إلى الاشتغال بتفاصيلها. هذا المثقف الذي لم نره يشعل فتيل معركة صغيرة في ثورات الربيع العربي، أو يؤجج صراعا، أخذ بتهمة حيازة الأسئلة المفخخة وأصبح مشبوها ومشتبها به، يطارد بين الأوراق وفي الأحبار، ومع ذلك يكرر كي ينفي عنه الشبه بتلك المقولة المكررة التي أصبحت أقرب الشبه بنكتة سامجة «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، لن أعود وأكرر معنى الثقافة وأهمية أن تكون مثقفا، لأنها أصبحت ذات دلالات واسعة لا تشمل فقط كل من قرأ كتابا أدبيا أو فلسفيا، بل إنها ذاك الشيء السحري الذي يدفع الناس لأن يتخلقوا بأخلاق حسنة، وتتسع صدورهم لأن يستمعوا إلى الاختلاف مهما شط عنهم وقلب موازينهم.
الثقافة التي تنتزع فتيل الصراع من عقول الناس وقلوبهم، الثقافة التي تمسح عن الأذهان الصورة الذهنية للمثقف ذي الرأس الأصلع ولفائف السجائر الفاخرة، تلك التي تعيد برمجة الثقافة وفق منظور الواقع الذي يلزمهم بالمسؤولية وتحيلها إلى ثقافة تتغلغل في تفاصيل الأشياء من حولنا، تبدأ من لغة الخطاب وتنتهي بتجسيد الفكر إلى واقع، من خلال أخلاق تنعكس على السلوك الحضاري الراقي، ولا أستطيع أن أشبه كل أولئك المتناحرين تحت مظلة الثقافة، سوى أوراق هشة كتبت بأحبار رخيصة، هؤلاء لا يصنعون لنا وطنا حتى لو علقوا على رقابهم أعلام الوطن وتحدثوا باسمه.