إذا كانت المرجعية في فهم القضايا الدينية الإسلامية، هي النص الديني في شقيه القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية، فلماذا يقع الاختلاف بين الاتجاهات الدينية المتعددة في فهمها وتعاطيها مع المسائل الدينية الشرعية؟
يُرجع علماء
الشريعة أسباب الاختلاف تلك إلى سببين أساسيين: أولهما طبيعة النص الديني من حيث ثبوته ودلالاته، وثانيهما: تفاوت أنظار المجتهدين في فهمهم للنص تبعا لاختلاف مداركهم العقلية وفقا لباحثين شرعيين.
ويشرح علماء أصول الفقه السبب الأول بقولهم إذا كان النص قرآنا كريما فهو قطعي الثبوت، لكن من جهة الدلالة، منه ما هو قطعي، ومنه ما هو ظني، أما إن كان حديثا نبويا، فمنه ما هو قطعي الثبوت، وهو
الحديث المتواتر، ومنه ما هو ظني الثبوت، وهو
أحاديث الآحاد، أما من جهة الدلالة فمنه القطعي في دلالته، ومنه الظني المحتمل لأكثر من معنى.
أما السبب الثاني العائد إلى اختلاف مدارك المجتهدين العقلية، فإنه يفتح المجال لتساؤلات مثارة على نطاق واسع، يأتي في مقدمتها سؤال استكناه طبيعة عمل العقل في فهم النص الشرعي، فهل ثمة محددات وضوابط لذلك العمل أم أن للعقل مطلق النظر في فهم النص وتنزيله على الواقع؟.
وتتشعب الأسئلة لتشمل تحديد موقف العقل من القضايا الدينية التي لا تفهم إلا على وجه التسليم والإذعان كالغيبيات، وأسرار العبادة وحِكمها، والبحث عن إجابات متوازنة لمعالجة إشكالية تعارض العقل والنقل، وأيهما يُقدم عند التعارض وتعذر سبل الجمع بينها.
محددات عمل العقل وضوابطه
حدد أستاذ الشريعة في جامعة اليرموك الأردنية، الدكتور منصور أبو زينة جملة محددات وضوابط لعمل العقل في فهم النص الشرعي، من أهمها وأبرزها قواعد الاستنباط المشروحة في علم أصول الفقه، فهي موازين مستقيمة لضبط حركة العقل، وكذلك مراعاة قواعد اللغة ودلالة الألفاظ حتى لا يشتط العقل في تفسيره وتأويله.
وشدد أبو زينة على ضرورة التشبع بعلوم اللغة العربية لمن أراد فهم النص الديني وتأويله، لأن القرآن نزل بلغة العرب، ولا يمكن فهمه على وجه صحيح ودقيق إلا بفهم لغة العرب، والتضلع بأساليبهم البلاغية، ودراسة النحو دراسة متأنية ومستوعبة.
وأوضح أبو زينة أن العقل ينبغي أن يكون مقيدا في حركته بتلك القواعد والضوابط، وليس له مطلق النظر في تفسيره وتأويله للنصوص الشرعية دون مراعاتها والتقيد بها، وحينما يرفض العقل التقيد بتلك القواعد والأصول فغالبا ما تكون تأويلاته فاسدة وبعيدة.
وجوابا عن سؤال "
عربي21": إذا كانت تلك القواعد والأصول من إنتاج العقل البشري، فلماذا يُحجر على العقل إنتاج قواعد جديدة لفهم النص وتفسيره استنادا إلى تطور المعرفة البشرية، قال أبو زينة: ليس الأمر كذلك، فالعقل لم ينتج تلك القواعد والأصول، وإنما قعدها وقننها، لأنها بالأساس موجودة ومرعية قبل تقعيد تلك القواعد في صورتها النهائية المتداولة.
لكن كيف يمكن التعاطي مع إشكالية العقل والنقل؟ وكيف يمكن درء التعارض بينهما؟ أجاب أبو زينة أن العقل خادم للنقل، بعد أن ثبت الثاني بالأول، فكانت وظيفة العقل الأولى إثبات صحة مصدرية النقل، ثم تأتي وظيفته الثانية في التفسير والشرح والبيان.
أما عن خلاصة القول في درء التعارض بينهما، فجزم أبو زينة أنه يستحيل وقوع التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل، لأن الذي خلق الإنسان هو سبحانه الذي أنزل القرآن.
النص مطلق وفهمنا له نسبي
من جهته أشار الباحث الشرعي الفلسطيني، سعيد الصرفندي إلى أن العقل هو الطريق إلى الإيمان، ولا يمكن أن يكون إيمان إلا بالعقل، وقد استثنى سبحانه الطفل والمجنون والنائم، من التكليف تبعا لذلك، والقاسم المشترك بينهما هو غياب العقل كليا أو جزئيا.
ونبه الصرفندي إلى أننا "لو تأملنا كتاب الله وتدبرنا آياته، فسنجده يذم في مواضع كثيرة، طريقة تعامل الأمم السابقة مع أنبيائهم، المستندة إلى شعار "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا"، أي أنهم لم يبحثوا في أدلة ادعاء النبوة بعقولهم، بل استندوا إلى طريق التقليد التي لا توصل إلى اليقين ولا إلى الإيمان".
وقال الصرفندي لـ"
عربي21" إن "ذلك العقل الموصل إلى الإيمان، لا يمكن إقالته بعد الدخول في دائرة الإيمان، إذ لا بد من مقاييس العقل وضوابطه لفهم النص، فالنص ليس وصفا انفعاليا، بل نص أريد منه التطبيق، والتطبيق يحتاج إلى فهم".
وأضاف "ولا يقال: أي عقل يمكن اعتماده والعقول متفاوتة؟ لأن المراد بمقاييس العقل، الأحكام العقلية القاطعة التي لا يختلف عليها اثنان، من قبيل: اجتماع النقيضين محال، والجزء أصغر من الكل".
في هذا السياق تحضر بقوة إشكالية اختلاف أفهام الناظرين في النص الديني بحسب خلفياتهم العلمية، وحصيلتهم المعرفية، فهل ثمة معايير لمحاكمة تلك الأفهام؟ أجاب الصرفندي إننا إن تأملنا النص القرآني نجد أنه نص مطلق، وفهمنا له نسبي بحسب طاقتنا البشرية، ما يعني تفاوت العقول في الفهم بحسب مدخلات عملية التفكير".
وتابع "هنا يأتي دور العقل لرفع الإشكال بين النص والواقع، إذ إن تجدد الواقع يقتضي تجدد الأفهام للنص الذي تتطور دلالاته بتطور الواقع، مع ثبات النص، ولو قلنا بعدم تدخل العقل في فهم النص لعطلنا النص في حياتنا مما يجعله غير صالح لكل زمان ومكان، حتى لو اختلفنا في الفهم، لأن الله لن يحاسبنا على إصابة مراده بل على قدراتنا البشرية (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
وعن مدى إلزامية قواعد الاستنباط، وفهم دلالات الألفاظ المذكورة في كتب أصول الفقه، رأى الصرفندي أن "تلك القواعد والأصول، قواعد علمية منهجية، لا تقع ضمن ثوابت الإسلام، فيمكن تطويرها وتحسينها".
اختلاف أفهام ولا تعارض بين النقل والعقل
برؤية تستند إلى تراث المعتزلة، بيّن الباحث المعتزلي، ناجح سلهب أن "قولنا: هل يخالف الشرع صريح العقل قول غير سليم، وسؤال غير وجيه".
وعلّل سلهب كلامه السابق بأننا "لو سألنا أنفسنا وما الشرع؟ لقلنا إما أن يكون الشرع ما فهمه العلماء من النص، وفي هذه الحالة نكون أمام إنتاج عقلي يعارض إنتاجا عقليا آخر، أما إذا قلنا إن الشرع هو النص، يكون الجواب وكيف عرفت معنى النص حتى تقول إنه مخالف لما ذهب إليه الشرع".
ووفقا للباحث المعتزلي سلهب فإنه لا يوجد شرع مخالف للعقل، بل إن المسألة لا وجود لها أصلا، لأن الموجود الوحيد هو فهم معين للنص يخالف فهما آخر للنص، أي أنه عقلي يخالف إنتاجا آخر.
وتابع "فالمسألة صراع عقول، وليس صراع عقل ونص، فليس هناك صراع عقل ونقل أو تعارض عقل ونقل حتى، وإنما هناك تعارض أفهام فقط، موضحا "أن الحكيم عز وجل وجه خطابه إلى العقل، فلو كان العقل قاصرا عن فهم خطاب الحكيم، لطعنا في علم الحكيم لأن من يخاطب عاجزا عن الفهم لإفهامه سفيه، وليس بحكيم، والله ليس بحاجة إلى أحد".
وبيّن سلهب أن "الشريعة كلها مبنية على جلب المصالح، ودرء المفاسد، وهذه المصالح والمفاسد معقولة مدركة بالعقل باتفاق أهل التحقيق من علماء المسلمين، وبلغة معاصرة فالعقل مسترشدا بالضرورة، والموازنة بين مصالح الناس الخاصة، ومصالح الاجتماع العامة يستطيع التشريع"، فالعقل عند المعتزلة مصدر أصيل للتشريع" على حد وصفه.
تبقى الإشارة إلى أن تحديد مسارات العقل في فهم النص الشرعي، ورفع إشكالية تعارض العقل والنقل، من مواطن الاختلاف الشديد بين الاتجاهات الإسلامية قديمها وحديثها، والدائرة بين من يقيد حركة العقل بقواعد معيارية حاكمة، وبين من يطلق العنان للعقل تدبرا واستنباطا، طلبا لتحقيق مصالح العباد كما جاءت بها الشريعة.