ما أن أحالت الحكومة المصرية موافقتها على اتفاق ترسيم الحدود البحرية، الذي يقضي بإعادة جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، حتى بدأت جولة أخرى من الجدل حول هذه القضية بين النخبة الثقافية والسياسية داخل مصر.
يكشف مسار الجدل الذي لم يتوقف أن هناك انقساما في الرأي حول الموضوع. والذي يبدو أن الطرف الذي يؤيد موقف الحكومة المصرية من هذه القضية يمثل الغالبية. يستند هؤلاء في موقفهم إلى تاريخ مكتوب وشهادات ووثائق وأحداث، وأسماء من كانت لهم علاقة مباشرة بهذا التاريخ، وتلك الأحداث. سأستعرض بعضا من ذلك، وسأقتصر هنا على رواية هذا الموضوع كما ترد في الوثائق والكتابات المصرية.
في معرض حديثه عن ضمانات أمريكية لإسرائيل في موضوع حق الملاحة في خليج العقبة في أعقاب فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، يذكر الكاتب والصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «سنوات الغليان» ما يأتي عن موضوع جزيرتي تيران وصنافير: «بدا (حينها) أن السياسة المصرية استقرت على خيار يعطي للملك سعود، ملك المملكة العربية السعودية، مهمة مواصلة بحث هذه القضية (قضية الملاحة) مع الإدارة الأمريكية، وكان هو أكثر المتحمسين لهذا الخيار على أساس اعتبارات عدة. أولها أن جزر (كذا) صنافير وتيران التي كانت مصر تمارس منها سلطة التعرض للملاحة الإسرائيلية في الخليج - هي جزر (كذا) سعودية جرى وضعها تحت تصرف مصر بترتيب خاص بين القاهرة والرياض». (سنوات الغليان، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1409هـ - 1988، ص 91). تأتي أهمية هذا الرأي من حقيقة أنه لا يمكن اتهام هيكل، رجل عبدالناصر الأول، والذي عرف بمواقفه غير الودية تجاه المملكة بأنه كان يحابي السعودية في ما قاله عن هذا الموضوع.
في برنامجه «حقائق وأسرار» استضاف النائب المصري مصطفى بكري اللواء إبراهيم محمود، أقدم لواء متقاعد في مصر، الذي كان شاهدا على كيف تم عام 1950 الاتفاق بين العاهل السعودي الملك عبدالعزيز والعاهل المصري حينها الملك فاروق على السماح لمصر باستعارة جزيرتي تيران وصنافير. يقول اللواء إبراهيم إن الملك فاروق بعث رسالة مع زوج أخته لتسليمها للملك عبدالعزيز يطلب فيها السماح لمصر بوضع اليد على الجزيرتين لأغراض أمنية. ثم يضيف أن العاهل السعودي استجاب فورا لطلب فاروق بقوله: «سلموا الجزيرتين لأخونا فاروق».
من جانبها نشرت الدكتورة هدى عبدالناصر، ابنة الرئيس جمال عبدالناصر، مقالة طويلة في صحيفة «الأهرام» المصرية استعرضت فيها بعض الوثائق من عهد والدها أثبتت لها، كما تقول، بأن الجزيرتين سعوديتان. وكانت قبل ذلك تعتقد أن الجزيرتين مصريتان. من بين ذلك وثيقة مصرية بعنوان «مرفق الأسس التي تضمنتها مفكرة وزارة الخارجية المصرية بتاريخ 28 شباط- فبراير 1950». ينص الأساس الأول كما يرد في هذه الوثيقة على أنه «نظرا للاتجاهات الأخيرة من جانب إسرائيل التي تدل علي تهديدها لجزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر عند مدخل خليج العقبة فإن الحكومة المصرية بالاتفاق التام مع الحكومة العربية السعودية أمرت باحتلال هاتين الجزيرتين وتم ذلك فعلا».
في 18 نيسان (أبريل) 2016 نشر سامي شرف (كان سكرتير الرئيس جمال عبدالناصر للمعلومات) مقالة أيضا في صحيفة «الأهرام». وتناول فيها من أسماهم «أصحاب الأجندات الخاصة من أجل الوصول لتحقيق هدف ليس بخاف على أحد ألا وهو إحراج النظام». وهو يشير بذلك إلى من يعترضون على إعادة جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، مثل المرشحين الرئاسيين السابقين أحمد شفيق وحمدين صباحي، بدعوى أن إعادة الجزيرتين ليست أقل من تنازل لا مبرر قانونيا له عن أرض مصرية، بل ويتناقض، كما يقول هذان المرشحان وغيرهما، مع مقتضى المادة 151 من الدستور المصري. ويضيف شرف في هذا السياق أن هؤلاء «يثيرون موضوعا ثابتا حسمه المتخصصون في التاريخ والجغرافيا، وأكده أساتذة القانون الدولي... وأنا أتحدث عن موضوع ملكية جزيرتي تيران وصنافير المقطوع بأنهما سعوديتا الملكية، وكان ذلك بالاتفاق السابق بين الطرفين تحت الحماية المصرية فقط وليست الملكية وذلك لقدرة مصر العسكرية على القيام بهذا الدور أكثر من السعودية ما دام هناك عدو صهيوني يهدد أمن كلا الطرفين السعودي والمصري».
هناك أيضا الدكتور مصطفى فؤاد عميد كلية الحقوق في جامعة طنطا الذي تحدث إلى برنامج «العاشرة مساء» على فضائية «دريم» باستفاضة لافتة عن التاريخ القانوني الذي يؤكد كما يقول إن الجزيرتين سعوديتان. وأشار في معرض حديثه كيف أن قضية هاتين الجزيرتين برزت أثناء المفاوضات بين مصر وإسرائيل التي أفضت إلى اتفاق كامب ديفيد عام 1979. إذ يذكر الدكتور فؤاد أن الرئيس أنور السادات «كتب بخط يده أثناء المفاوضات أن تخرج جزيرتا تيران وصنافير من المفاوضات باعتبارهما جزيرتين سعوديتين».
في 10 نيسان (أبريل) 2016 نشرت صحيفة «اليوم السابع» المصرية وثائق تثبت كما تقول اعتراف مصر بأن الجزيرتين سعوديتان. ومن بينها الخطابات التي تم تبادلها عامي 1989 و1990 بين وزير الخارجية السعودية الراحل الأمير سعود الفيصل مع وزير خارجية مصر عصمت عبدالمجيد، والدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء حينها. في أحد هذه الخطابات يقول سعود الفيصل مخاطبا عبدالمجيد: «إنه بناء على الاتصالات التي جرت بيني وبين معاليكم، وآخرها كان في نيويورك عام 1409هـ، والذي تطرق إلى بحث موضوع جزيرتي تيران وصنافير التابعتين للمملكة العربية السعودية، حيث أبديتم عدم اعتراض أو تحفظ لديكم في ما يخص سيادة المملكة على هاتين الجزيرتين، سوى ما قد يتعارض مع التزامات مصر الإقليمية والدولية...». ثم يضيف الفيصل بعد تعبيره عن تفهم المملكة لذلك بأن «كل ما في الأمر هو عودة الجزيرتين بعد أن انتهت أسباب الإعارة».
وقبل ذلك وبعده فإن الخرائط العربية والأجنبية للمنطقة تضع جزيرتي تيران وصنافير ضمن الحدود المائية للسعودية داخل البحر الأحمر.
الشاهد الأهم في كل ذلك أن الحكومات المصرية منذ العهد الملكي عام 1950، مرورا بالعهد الناصري، وحتى عهد الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي، أي عبر أكثر من ستة عقود متتالية، كانت تعترف بوثائق مكتوبة وخطابات متبادلة بأن ملكية الجزيرتين تعود للسعودية، وأن مصر استولت عليهما بالاتفاق مع السعودية لأغراض عسكرية فرضها الصراع مع إسرائيل بعد احتلال هذه الأخيرة لمنطقة أم الرشراش (المعروفة حاليا بميناء إيلات) في أواخر عام 1949. وأهم ما يعنيه ذلك أن مسألة الجزيرتين ليست مسألة نزاع على السيادة بين السعودية ومصر، ولم تكن كذلك قط.
أمام هذا الجزء البسيط من تاريخ الوضع القانوني للجزيرتين، وما يعبر عنه بروايته المصرية، يبرز السؤال المنطقي: لماذا يحصل الانقسام داخل النخبة المصرية حول قضية بهذا الوضوح؟ يجب أن نأخذ في الاعتبار أن المنطق لا يتفق دائما مع الواقع، خصوصا الواقع السياسي. الأمر الآخر أن المعترضين على إعادة الجزيرتين للسعودية يمثلون الأقلية داخل مصر، كما يبدو. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، وربما بسبب من ذلك، أنهم في موقفهم المعارض لا يستندون إلى تاريخ أو وثائق أو شهادات. بل إلى خطاب تغلب عليه إنشائية شعبوية فاقعة تعتمد على الشحن العاطفي، وإثارة انقسامات وطنية وقومية تتناقض رأسا مع ما يدعون أنهم يدعون إليه.
يتنكر أصحاب هذا الخطاب للرأي الآخر وللقانون والتاريخ. والأغرب في الأمر أن بعض هؤلاء ينتمون إلى التيار الناصري، مثل حمدين صباحي، ومع ذلك يتجاهلون تماما الرواية الناصرية لتاريخ القضية، لا لشيء إلا لأنها لا تتفق مع هواهم السياسي. في هذا السياق يبدو أن موقفهم ليس موجها ضد السعودية حصرا، وإنما يعبر أيضا عن استغلال انتهازي لموضوع الجزيرتين للتعبير عن موقف معارض للرئيس السيسي وحكومته.
وهذا نهج يفتقد الشجاعة والحكمة في تناول قضية لا تخص مصر وحدها، بل تمتد آثارها إلى خارج الحدود نحو دولة عربية أخرى لا مصلحة لأحد في ضرب العلاقة معها، خصوصا في مثل الظرف الإقليمي السائد.
كان يمكن أن يكون الخلاف حول الجزيرتين مناسبة لنقاش قانوني وسياسي وتاريخي ثري. لكن مسار الجدل حتى الآن انحرف نحو هذه الشعبوية التي تهدد الجميع، بما في ذلك مصر نفسها. السؤال: لماذا وكيف وصل الخطاب السياسي في مصر إلى هذه الحال بعد تجربة سياسية غنية امتدت لأكثر من قرن من الزمن؟