كتاب عربي 21

الظلم.. خراب العمران

1300x600
على النطاق العالمي، يستأثر سكان الشمال - وهم 20% من سكان العالم - بـ 86% من ثروات العالم، ويعيش أهل الجنوب - وهم 80% من سكان العالم - على 14% من ثروات العالم فقط لا غير!.

وفي كثير من بلاد العالم الإسلامي، يستأثر 5% من السكان بأغلب الثروة، بينما تعيش الجماهير الغفيرة تحت خط الفقر.

ولقد تحدث ابن خلدون ( 732 - 808 هـ ، 1332 - 1406 م) - في مقدمته - عن أن هذا الظلم هو المؤذن بخراب العمران، وقال في ذلك - تحت عنوان "فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران": "إن الظلم مخرب للعمران، وهذا الخراب عائد على الدولة بالفساد والانتقاض".

كما تحدث عن ألوان الظلم وأنواعه فقال: "ولا تحسبن أن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب - كما هو المشهور - بل الظلم أعم من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو غَصبه في عمله، وطالبه بغير حق، أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران، الذي هو مادتها، لإذهابه الآمال من أهله.

واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع من تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران: تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق، وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات، أي من قبيل الرزق، والرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران، ولا مكاسب لهم سواها، فإذا كُلفوا العمل في غير شأنهم، واتخذوا سخريا في معاشهم، بطل كسبهم، واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم، فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة، وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة، فأدى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه.

وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة: التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع".

ثم يتحدث ابن خلدون عن أن هذه المظالم المتنوعة والمتعددة إنما تحدثها الدولة لتحقيق رفاهية الحاكمين على حساب إفقار المحكومين، ورفاهية أهل الدولة وإنفاقهم أكثر من كسبهم هو المؤذن بخراب العمران، يتحدث عن ذلك، فيقول: "واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال، بما يعرض لهم من الترف في الأحوال، فتكثر نفقاتهم، ويعظم الخرج - (المنصرف) - ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة.

ثم لا يزال الترف يزيد، والخرج بسببه يكثر، والحاجة إلى أموال الناس تشتد، ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحي داءتها ويذهب رسمها، ويغلبها أعداؤها".

هكذا تحدث فيلسوف العمران، وفقيه الأمة، وهكذا يجب أن تتم قراءة جديدة واعية لتراث هذا الحكيم، وذلك حتى نستدعي من تراثنا ما نعالج به مظالم الواقع البائس الذي نعيش فيه.