كتاب عربي 21

مصر، عاصمة الختان العالمي

1300x600
سنة واحدة مع وقف التنفيذ لثلاثة من المتهمين وخمس سنوات سجنا غيابيا، كانت حصيلة حكم إحدى محاكم السويس في قضية مقتل الطالبة ميار (17 سنة) على إثر تعرضها لعملية ختان قبل أشهر قليلة في حادثة كانت أعادت النقاش حول ختان البنات بمصر. حينها أصدر "البرلمان" قانونا يغلظ العقوبات لتصل إلى سبع سنوات سجنا لممتهني هذه الممارسة المنتشرة في ربوع المحروسة. أحكام قضية ميار بنيت على القانون القديم.

لم تكن ميار وحدها ضحية للختان بأمر والدتها بل شملت العملية أختها التوأم التي ستجر معها آثار العملية ما حيت ومعها ذكريات أخت كان الهدف "حمايتها" من الغواية فانتهت جثة هامدة لا روح فيها.

هن 125 مليون امرأة في العالم تعرضن للختان حسب إحصائيات الأمم المتحدة ربعهن مصريات ما يجعل البلد عاصمة الختان العالمي حيث بين تقرير أصدرته الحكومة المصرية شهر مايو الماضي أن 92 بالمائة من النساء المتزوجات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 15 و 49 سنة خضعن للعملية مقابل 97 بالمائة في العام 2000.
 
لنتابع فيلم (دنيا – 2005) للمخرجة جوسلين صعب وقصة ياسمين ودنيا وميار ومجتمعات ختنها العسكر وقلموا لديها رغبات الاستمتاع بالحرية والكرامة وكرسوا لديها القبول بالمهانة والعيش في خمول وانكسار.
 
أخذت الجدة المشرط بيدها، فتحت ساقي الفتاة الصغيرة الملقاة على البساط، صراخ ودماء تناثرت على المنديل الأبيض. لقد ختنت الفتاة ياسمين.

تصل دنيا (حنان ترك) لتجد نفسها أمام الأمر الواقع الذي طالما حاولت تجنبه على طول أحداث الشريط الذي يحمل اسمها عنوانا له. فكان هذا الحوار الصادم:
 
دنيا (موجهة كلامها للجدة): خلاص خلتيها زيك. فاكرة انك انت كده بتحميها. انت طفتيها. حتخللي طبيخها يفضل طول العمر بارد حتى وهو ع النار. طبيخ ملح الدنيا كله مش حيحدقوا.
الجدة : ده ضنايا..
دنيا: عارفة. ضناك وبتحبيها وخايفة عليها ونفسك تعمليها ست محترمة (تحمل الفتاة باكية) بس في الآخر ذبحتيها.

انتهى الحوار لكن معاناة ياسمين وكثير مثلها من فتيات مصر لا تزال متواصلة مع الختان وعواقبه على الجسد والروح. في شريط " دنيا " للمخرجة اللبنانية جوسلين صعب محاولة سينمائية للاقتراب من هذه الممارسة الاجتماعية المسلطة على نساء مصر وكثير من الدول العربية الأخرى بدعاوي الحيلولة دون انحلال الفتاة وانحرافها. لكن الشريط لا يعالج هذا الموضوع كتيمة أساسية بل اتخذه ذريعة لملامسة واحدة من أكثر المحرمات المسكوت عنها في مجتمعاتنا: النشوة في العلاقات الجنسية.
 
يدخل الأستاذ بشير ومعه الطالبة دنيا، التي يشرف على رسالتها، إلى داخل إحدى المكتبات.
دنيا: ينفع يكون الحب الجسدي طريق للحب الصوفي؟
الأستاذ بشير: ليه العناوين الكبيرة ده؟ حاولي تفكري في الموضوع بطريقة أبسط من كده. خذي مثلا موضوع الفراق، اللوعة، اللذة. مثلا موضوع فناء العاشق في المعشوق عند ابن حزم، أو عبارات العاشق عند ابن عربي، أو نشوة الجسد والروح... نشوة الجسد والروح.
دنيا: النشوة؟
الأستاذ بشير: النشوة ده حاجة كبيرة أوي. منتهي الحب، قمة الجبل العالي والوصول ليها صعب وعايز صبر. يا توصلي يا تخافي وترجعي وده وارد.
 
دنيا فتاة مصرية شابة تائهة تبحث عن ذاتها في علاقاتها مع الآخرين ومع محيطها بكل مكوناته العقائدية والاجتماعية الموروثة. تتنازعها رغبات عدة متناقضة. فهي تسعى لتعلم الرقص الأكاديمي على أصوله، ولا تجد حرجا في الارتماء بين أحضان راقصات شعبيات لا يعرفن عن الرقص غير هز الوسط دون أية جماليات استيتيقية أو ذوق فني كما كانت والدتها المتوفاة. هي موزعة بين الرغبة في العيش بالمدينة (القاهرة) والحنين إلى أصل والدتها بالصعيد. والأهم هو ترددها في حسم علاقتها مع ثلاثية أولها حبيبها ممدوح (فتحي عبد الوهاب) الذي أصبح زوجها فيما بعد، وثانيها بشير (محمد منير) المشرف على رسالتها في الماجستير عن الحب في الشعر العربي وثالثها أستاذها في الرقص.

فمع الأخير تعلمت كيف تكتشف جسدها وتطوعه لإيصال مشاعرها إلى الآخر، ومع الثاني تفتحت على آفاق الحب الصوفي الرومانسي وتطبيقاته في حين كانت علاقتها مع الأول جسدية حسية للإمتاع والانتشاء. وفي خضم هذا التيه الذي يؤرق حياة دنيا نستعرض مع المخرجة نماذج متصارعة من صميم الواقع المصري المعاصر المكبل بالتقاليد والأعراف والتواق إلى "التحرر" ولو في صيغ هجينة غير مؤصلة.
 
داخل لجنة الامتحان، وعلى خشبة المسرح تقف دنيا في مواجهة اللجنة.
عضو1 بلجنة الامتحان: أنا مستغرب إزاي وحدة زيك جاية تمتحن رقص وواقفة متخشبة؟ انت متخشبة ليه؟
عضو2 بلجنة الامتحان: أنا مش فاهم يا آنسة. حاولي تحسي بجسمك شوية.
تجلس دنيا ملتفة حول جسدها حتى لا يظهر منه أي تفصيل.
دنيا: أنا عمري ما شفت جسمي. أول مرة شفت فيها جسم واحدة عريانة كان في السينما في فيلم فرنساوي من سنتين. اتعلمت أقعد القعدة ده علشان ولا حتة من جسمي تبان.
 
دنيا فتاة تبحث عن الحب وتسعى إليه بكل حواسها. لكن الخوف الذي تربى لديها من الإقدام على خطوة غير محسوبة قد تكون نتائجها كارثية على نفسيتها وعلاقتها مع المحيط وقف دوما سدا منيعا بينها وبين تحقيق رغبتها كاملة غير منقوصة. لقد سعت دنيا دوما إلى تحقيق التوازن المفروض بين الصور البلاغية للشعر الذي تحضر رسالتها حوله وبين متطلبات الجسد الفائر التواق للارتواء. وفي انتظار ذلك عانت الأمرين مع الحرمان المرتبط في جزء منه بضرورة احتفاظ الفتاة بعذريتها حتى الزواج، ما دام الزوج الشرقي نافرا من الارتباط بزوجة غير عذراء ولو كان مفتض بكارتها. امتحان صعب قررت دنيا عدم رهن مصير علاقتها المستقبلية بمحمود بإمكانية تقبل الأخير لتلك الحقيقة من عدمه.

في بعض من مشاهد الشريط يكرر الأبطال مقولة كيف أنه ليس في مجتمعاتنا قانون يمنع الحب فلِمَ الخوف إذن من الإقبال عليه؟ أسلافنا، حسب الأستاذ بشير، انطلقوا أحرارا في الحب ودليله كتاب ألف ليلة وليلة وفناء العاشق في المعشوق عند ابن حزم وعبارات العاشق عند ابن عربي وأشعار بشار ابن برد وأبي نواس وغيرهم كثير. لكن الأغاني المعاصرة من محمد عبد الوهاب ومجايليه ومن تبعهم في درب الغناء مليئة باللوعة والعذاب، معبرة عن شعوب تخاف الحب وتهابه بل تعتبره ضعفا ومهانة. وحتى اللذة في الحب، حسب بشير دوما، لا نقوم إلا بخطفها خطفا في فضاءات مؤثثة بالعيب والمحرمات بالرغم من عدم إمكانية فصل اللذة عن الأدب العربي. ليبقى السؤال مطروحا: كيف وصل بنا الأمر إلى هذا الكبت أفرادا وجماعات؟

صحيح، حسب الأستاذ بشير، أن شعر الحب ماجن وفاجر وفيه شيء من الكفر. لكن أين ولدى من؟ في نظرة الناس إليه وطريقة استقبالهم له. لكن الذي يعرف القراءة جيدا سيعرف معنى الجمال وسيعرف أن شعر الحب الحقيقي والجريء هو فن الحياة نفسها.

تلك مجموعة من الأفكار التي حاولت المخرجة جوسلين صعب تمريرها على لسان شخصيات شريطها، محاولة إبراز التناقض في مجتمع يعرض باعته، مثلا، على واجهات محلاتهم ملابس النساء الداخلية استثارة للزبائن، في وقت يرفض فيه مواطنيه حق المرأة في تملك جسدها. لكن كل ما عرضه الفيلم لا يبيح أبدا إجازة العلاقات غير الشرعية التي جمعت عددا من شخصياته وقدمت على أنها قمة اللذة والانتشاء مقابل تراخي العلاقة الجنسية كلما كان الزواج هو الرباط بين العاشقين. فليس في الانحلال الدواء الشافي للمنع والكبت الجنسي المسيطرين على المجتمع. والتخفي وراء قيم الحداثة لتمرير خطابات مثل تلك أمر يسيء فعليا إلى صاحبه ويضعه محل تشكيك واتهام.

لقد حاول الشريط استباق مثل هذه الأحكام، التي تجد لها شرعية وامتدادا لدى العديدين ولو لم يكونوا متحاملين على العمل، بموازاة قصته الرئيسية المتعلقة بالجسد واللذة بقصة فرعية تعالج القمع الفكري والسياسي المؤطر للعلاقات المجتمعية في بلداننا من خلال المواجهة التي تزعمها الأستاذ والصحفي بشير في مواجهة القوى "المتطرفة" وأجهزة الدولة المتهمة بمصادرة الكتب وإغلاق المطابع وقمع الحريات في ظرف زمني مفصلي في تاريخ الأمة مطبوع باتهامات التخوين والعمالة وغياب الحوار الهادئ والرصين. صراع أدى ببشير إلى العمى وفقدانه البصر في هجوم استهدفه لينطلق هو الآخر في رحلة بحث عن فهم العالم من حوله اعتمادا على أحاسيسه العميقة وفهمه لثنايا جسده ومكنوناته. وهو اختيار إبداعي ليس غريبا على جوسلين صعب الصحافية التي تحولت للسينما ومعها التزامها السياسي المعروف عنها منذ بداياتها في الميدان.

في فيلم "دنيا" فلتات سينمائية رائعة رغم ايروتيكيتها. ولعل مشاهد العلاقة الجنسية الحسية التي جمعت بشير بعاملة الفندق أولا ثم دنيا ثانيا أكبر دليل على حرفية المخرجة. فالمشاهد لا قبل ولا "عري" ولا ممارسة جنسية فيها، بل مجرد احتكاك وتماس أجساد معبرة عن إحساس أرواح مفعمة بالعشق. كما أن أداء الممثلين كان في أغلبه موفقا وبعيدا عن السائد الذي ألفناه في الأفلام المصرية. فحنان ترك بجسدها النحيف تملكت الشاشة طوال أحداث الفيلم وتلاعبت به كما شاءت خصوصا في مشاهد الرقص التي أبدعت فيها بلا منازع وكانت بارعة في ايحاءاتها، نظرات عينها كما في مشيتها. أما عايدة رياض فبدت متفوقة في دور المرأة الشبقية الراغبة في الجنس رغم عملها كسائقة تاكسي ما يستدعي، طبيعيا، كل مقومات الرجولة لمن يسعى لامتهانها. أما محمد منير فكان غناؤه صداحا مؤثرا أكثر من أدائه في حين أبدع فتحي عبد الوهاب في دور العاشق المحروم وسوسن بدر في دور الأستاذة المتحررة. وبدت وجوه الممثلين متعبة بلون أرضي يظهر الجفاف المسيطر على حيواتهم ومشاعرهم إلا في حالات اللذة القصوى حيث تضيء الوجوه وتنير.

ورغم غير قليل من الفراغات في السيناريو والبناء الحكائي ظلت أوصال الشريط مشدودة إلى بعضها ولو بصعوبة. لكن ما يعاب على جوسلين صعب يبقى إسرافها الكبير في مشاهد الإيحاءات الجنسية وتكرارها دون فائدة درامية حقيقية تدفع بالحدث إلى التصاعد. ولعل مشهد النهاية يبقى مثالا على عدم توفق المخرجة في بلورة توجه فكري أصيل منطلق من البيئة التي تخاطبها دون انغلاق عن العالم الخارجي. فكيف لنا تقبل العلاقة الجنسية بين دنيا وأستاذها بشير مقابل تخليها عن الزوج تحت ذريعة توحد الجسد والروح؟ كما أن التناقض بين شبقية الشخصيات النسائية في الشريط ومفهوم الختان الذي تدعي المخرجة معالجته تطرح أكثر من علامة استفهام حول وحدة الموضوع والتيمة المطروقة.

الفيلم احتفاء بالشعر والغناء والرقص، ودعوة لتحقيق التوازن بين رغبات الجسد والروح وملائمتهما بعضا ببعض. وللرقص في نظر جوسلين صعب الدور الأكبر في منح جسد المرأة النعومة المطلوبة لاستثارة مشاعرها قبل مشاعر العشيق والزوج.

الفيلم حامل لفكر مستورد لكنه أبدا لا يسيء إلى مصر أو غيرها كما اتهم به. وفيه شيء من السينما تمنينا لو سارت به المخرجة إلى النهاية لتقديم شريط مختلف في المظهر والجوهر عن السائد السينمائي الاستسهالي المسيطر على السينما العربية والمصرية منذ سنوات.
ونهاية الشريط مجرد بداية تدفعنا للختم باستهلال المقال تأكيدا على المعنى:
 
تأخذ الجدة المشرط بيدها، تفتح ساقي الفتاة الصغيرة الملقاة على البساط..  صراخ ودماء تتناثر على المنديل الأبيض. لقد ختنت الفتاة ياسمين.
تصل دنيا (حنان ترك) لتجد نفسها أمام الأمر الواقع الذي طالما حاولت تفاديه على طول أحداث الشريط. فكان هذا الحوار الصادم:
 
دنيا (موجهة كلامها للجدة): خلاص خلتيها زيك. فاكرة أنك انت كده بتحميها. انت طفتيها. حتخللي طبيخها يفضل طول العمر بارد حتى وهو ع النار. طبيخ ملح الدنيا كله مش حيحدقوا.
الجدة: ده ضنايا..
 
دنيا: عارفة. ضناك وبتحبيها وخايفة عليها ونفسك تعمليها ست محترمة (تحمل الفتاة باكية) بس في الآخر ذبحتيها.
 
ترى كم من ياسمين وكم من ميار بمصر وغيرها من الدول العربية ينتظرن دورهن في انتظار مشرط قد يكون بيد الأم أو الجدة أو غيرهما من سدنة وحماة "الفضيلة والأخلاق"؟