تحدثت منذ البدء، أي منذ أن بدأت الأحداث تشتد في سوريا أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تعمل على تدمير سوريا كدولة، وتدمير بناها التحتية ومقومات بقائها وذلك لتطمئن لسقوط الأمة العربية أمام الكيان الصهيوني. صحيح أن سوريا لم تكن في مواجهة الكيان، ولم تفتح جبهة الجولان لكنها كانت تقول لا أحيانا في لقاءات الجامعة العربية، واستمرت في دعم حزب الله والمقاومة الفلسطينية في غزة. وبسبب دعم سوريا لقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية فشل الكيان في أربع حروب متتالية وبات يدرك أن الجندي العربي قد تغير، وأن الحروب ضد العرب لم تعد نزهة. بالنسبة للدول الغربية، نظام بشار الأسد مرفوض ومن المهم التخلص منه، وفي المقابل حكم الإسلاميين الشرسين لسوريا غير مقبول أيضا بسبب الخشية من انقلابهم إن حكموا. لقد دعم أهل الغرب والعرب تنظيم القاعدة بداية، لكن رد الإحسان كان بتفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك. وأمريكا لا تملك خيارا ثالثا تشد الرحال وتخوض غمار الحرب من أجله. وبما أن الخيار الثالث غائب، فإن تدمير سوريا يشكل رؤية معقولة فيستتب الأمر للكيان الصهيوني وأصدقائه من العرب، وتتخلص أمريكا من بعض الرافضين لهيمنتها ويتقلص دور إيران في المنطقة وفي مواجهة الصهاينة.
ولهذا، رأينا على مدى السنوات التردد الأمريكي في دخول المعركة مباشرة، وفضلت أن تبقى بعيدة بعض الشيء وتكتفي بدور الموجه لساحات المعارك. أدّت أمريكا دورا بارزا في توجيه بعض الدول العربية لتزويد المعارضة السورية بالسلاح والخبرة القتالية والتدريب والتنظيم، لكنها بقيت حذرة من الانخراط المباشر. الداخل الأمريكي لم يكن مستعدا للدخول في حروب جديدة بعد تجربتي أفغانستان والعراق، وروسيا كانت وراء التلة تراقب بحرص شديد ودقة، حتى لا يضيع حليفها الأول في المنطقة العربية. صحيح أن أمريكا قوية عسكريا وتتفوق على روسيا في ميدان الأسلحة التقليدية، لكنها في الوقت ذاته تهاب روسيا وتحسب لقدراتها العسكرية ألف حساب. وعليه، أدّت أمريكا دور المراقب للميزان العسكري في الداخل السوري؛ فكانت تخفف من دعم العرب للمسلحين إذا أحست أنهم يتفوقون على الجيش السوري، وكانت تغض الطرف عن الدعم الإيراني للنظام السوري، وكانت تحرض العرب والأتراك على تقديم المزيد من الدعم المالي والعسكري للمعارضة السورية إذا شعرت أن الجيش السوري يحقق إنجازات كبيرة في الميدان. هكذا بقيت الحرب مستعرة. لم يكن بخاطر أمريكا حسم الحرب لصالح هذا الطرف أو ذاك، وإنما استمرار القتال لكي تتهاوى البنى التحتية السورية ويهجّر الشعب السوري وتباع فتيات سوريا في سوق النخاسة العربية. هكذا فعلت مع العراق وإيران في بداية ثمانينيات القرن الماضي، واستنزفت طاقات العرب والإيرانيين، في حين بقي الكيان الصهيوني يتفرج من بعيد على سيل الدماء العربية والإيرانية.
روسيا من جهتها معنية بحسم الحرب لصالح النظام السوري، وليست معنية باستمرار الحرب لأنها تستنزفها أيضا. ولهذا تقدمت روسيا بثقل عسكري ضخم وهددت وتوعدت، وما زالت تحشد قواتها خاصة البحرية في البحر الأبيض المتوسط تحسبا لأي طارئ. هذا هو الفرق بين الرؤيتين الأمريكية والروسية. روسيا تريد إنهاء الحرب وأمريكا تعمل على مواصلتها. ولاحظنا في الآونة الأخيرة أن أمريكا قد رفعت الحظر عن توريد السلاح إلى سوريا؛ والسبب أن الجيش السوري أخذ يندفع بقوة نحو تصفية مراكز قوة المعارضة بخاصة في حلب. لقد هددت أمريكا واستعملت حتى الآن كل أنواع الضغط الديبلوماسي على روسيا، وتهدد أحيانا بتزويد المعارضة بأسلحة فتاكة؛ لأن المصلحة الأمريكية لا تقتضي انتهاء الحرب. ولهذا أوعزت أمريكا لحلفائها العرب الذين يمولون الحرب منذ البداية إلى الإسراع في نقل الأسلحة إلى المسلحين. وفق المعطيات العسكرية القائمة حاليا، المسلحون لن يتمكنوا من قلب الصورة العسكرية الميدانية، لكنهم قادرون على الاستمرار في إشغال الجيش السوري وخوض العديد من المعارك في التجمعات السكانية السورية. هم ما زالوا يسيطرون على الرقة، وعلى جزء كبير من محيط دير الزور، ويسيطرون على إدلب وعلى ريف حماة الشمالي، والحدود الأردنية ما زالت مفتوحية أمام دخول المعدات والمقاتلين. الجيش السوري سيبقى مشغولا ميدانيا حتى لو انتهت معركة حلب تماما لصالحه.
لكنْ، هناك حدود لتزويد المسلحين بالأسلحة المتطورة. أمريكا تتردد كثيرا في تقديم صواريخ مضادة للطائرات للمسلحين مخافة رد فعل روسي عنيف يؤثر بقوة على الداخل الأمريكي، الذي يشكل جبهة أمريكية ضعيفة. وفي الوقت نفسه لم تعد قادرة على تحريك الجبهة التركية بالطريقة التي تشتهيها. جربت تركيا التصادم مع روسيا فلم يجدها ذلك نفعا، واضطرت أن تتصالح مع روسيا غالبا وفق الشروط الروسية. أي إن قدرة أمريكا الآن على حشد الجنود والسلاح والمال تقلصت، لكن يوجد ما يكفي لإبقاء الجيش السوري على رؤوس أصابع أقدامه. والأمر يبقى أولا وأخيرا بيد السوريين. لقد فشلوا بداية في محاصرة الخلافات الداخلية، فهل يستمرون الآن في عنادهم الذي دفع ثمنه شعب سوريا؟