في الحملة الفرنسية على مصر والشرق عام 1798م، التي قادها بونابرت (1769 - 1821م)، أباد الفرنسيون "سُبع" الشعب المصري خلال سنتين، حيث أبادوا 300000 من شعب كان تعداده -يومئذ- أقل من ثلاثة ملايين!.
ورغم أن بونابرت حاول خداع المصريين، فزعم أنه مسلم، وأنه أكثر إسلاما من المماليك، ولبس العمامة، واحتفل مع الطرق الصوفية بالمولد النبوي، إلا أن المقدسات الإسلامية لم تسلم من تدنيس جيشه، فدخلت خيوله الجامع الأزهر الشريف، وعاث الجنود فيه فسادا، ودنسوا المصاحف، ومزقوا الكتب، وحطموا المصابيح، وقتلوا العلماء والطلاب، ثم سكروا، بل وبالوا وتغوطوا في الأزهر الشريف.
ولقد وصف مؤرخ العصر - الجبرتي (1167 - 1237 هـ ، 1745 - 1822م) هذه الغزوة البربرية لجيش "التنوير الغربي"!! فقال: "لقد دخل أولئك الوعول (التيوس) إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول وعاثوا في الأروقة والحجرات، وكسروا القناديل السهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبأة بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا بالمسجد وتمخطوا وبالوا وتغوطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه عروه، ومن ثيابه أخرجوه، ووجدوا في بعض الأروقة إنسانا فذبحوه، ومن الحياه أعدموه، وفعلوا بالجامع الأزهر ما ليس عليهم بمستنكر؛ لأنهم أعداء الدين، وأخصام متغلبون، وغرماء متشمتون، وضباع متكالبون، وأجناس متباينون، وأشكال متعاندون، وأعطى جيش الرحمن في تلك الليلة فسحة لجيش الشيطان"!!.
وهكذا رسم الجبرتي هذه اللوحة لهذه "الغارة" على أقدس المساجد والجامعات الإسلامية - بمصر -غارة "جيش الشيطان"- الذي زعم قادته أنهم مسلمون، وأكثر إسلاما من المماليك!.
ولقد كان الجبرتي واعيا بأن مرجعية فرنسا يومئذ هي المادية والإلحاد والفلسفة الوضعية، المنكرة لا للإسلام وحده، وإنما النصرانية، ولكل الديانات، فعلق على دعوى بونابرت وحملته بأنهم مسلمون بقوله: "إن إسلامهم نصب، فلقد خالفوا النصارى والمسلمين، وهم دهرية معطلون، وللمعاد والحشر منكرون، وللنبوة والرسالة جاحدون، لقد غطى الكفر على فؤادهم، وحجبهم عن الوصول إلى رشادهم، فحديثهم عن الإسلام هو خبل في العقل، وغلو في الجهل"!!.
وهكذا كان الجبرتي أكثر وعيا بفلسفة التنوير المادي العلماني من مثقفينا الحداثيين!.
ولقد تأكد هذا الموقف الفرنسي من دين المسلمين ومقدساتهم، عندما اعتمدت الحملة الفرنسية، بقيادة الجنرال "كليبر" (1753 - 1800م)، على شرذمة من الأقلية المسيحية، يقودها المعلم يعقوب حنا (1745 - 1801م) "أن يفعل بالمسلمين ما يشاء"!! فتطاولا على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا من أغراضهم، وأظهروا حقدهم، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين، وأيام الموحدين"! على حد وصف الجبرتي.
والمثير للدهشة والاستغراب أن هذا التاريخ الدموي والمخزي الذي صنعته فرنسا الاستعمارية، لم يتم الاعتذار عنه، بل لقد مجدته فرنسا، واحتفلت به عامين كاملين (1998 - 2001 م)، ومعها العلمانيون والفرنكفونيون المتغربون من أبناء جلدتنا، الذين احتفلوا بالاحتلال، بينما يحتفل كل الوطنيين والعقلاء في العالم بالاستقلال.
إن الوعي بالتاريخ أهم من مجرد قراءة التاريخ.