كتاب عربي 21

صُنِع في فرنسا.. الخطر آت من الداخل!

1300x600
حسن: سنضرب في جادة الشانزيليزيه.

سام: متى؟

حسن: يوم السبت، وقت الذروة.. ليس هذا كل شيء. هناك خلايا أخرى ستضرب في نفس التوقيت على طول التراب الفرنسي.. عمليتنا بداية سلسلة طويلة من الهجمات.. ستشهد فرنسا موجة عمليات كبرى وقد وقع الاختيار علينا لإطلاق صافرة البداية.. هذا شرف كبير.

ليس هذا مشهدا من فيلم يستلهم وقائع الهجمات المسلحة التي تعرضت لها باريس في الثالث عشر من شهر نوفمبر 2015، بل هو مشهد من فيلم سينمائي كان مقررا أن يخرج للصالات الفرنسية في الثامن عشر من شهر نوفمبر من السنة ذاتها، أي أياما خمسة فقط بعد الأحداث. "صُنِع في فرنسا" كان عنوان الفيلم لمخرجه نيكولا بوخريف. لكن الهجمات تلك حالت دون الفيلم وصالات العرض حتى اليوم واكتفى منتجوه بعرضه تلفزيونيا في قناة مشفرة أو عبر الانترنت.

لسان حال بطل الفيلم حسن لا يختلف كثيرا عما كان سيقوله عبد الحميد أباعوض لكتيبته "الجهادية" وهو يخبرهم بخطة استهداف باريس.

في نهاية الفيلم، ينجح سام في تفجير السيارة المفخخة وبداخلها يوسف وهو في طريقه لاستهداف روض أطفال بعد تغيير التاريخ والهدف. وفي سلسلة "مكتب الأساطير" نجح رجل المخابرات الفرنسية في اغتيال داعشي فرنسي في قلب "دار الخلافة" في عملية استباقية ناجحة.. أما في الواقع فقد تمكن "جنود الخلافة" من "غزو" باريس ومدن فرنسية أخرى. وبينما كانت الأجهزة الأمنية تبني حساباتها على صدور الأوامر وتخطيطات التنفيذ من الرقة السورية، وصلتها معلومة من جهاز مخابرات دولة خارج الاتحاد الأوربي تخبرها بمكان وجود الرأس المدبر (أباعوض) بحي سان دوني في إحدى "هوامش" باريس.

ما يحدث في السينما لا يتحقق دوما في الواقع. وما يحدث في الواقع يفوق أحيانا خيال السينمائيين مهما كان جامحا أو قارئا جيدا للوقائع والأحداث.

صُنِع في فرنسا..

بعد رحلة قادته إلى أفغانستان حيث "قابل" زعماء التنظيم، يعلن حسن العائد إلى فرنسا، لزملائه الأربعة (سام وإدريس وسيدي ويوسف/ كريستوف) أن وجودهم في الداخل الفرنسي أفيد للتنظيم من "الهجرة" إلى دار الإسلام، لأنه يعتزم نقل المعركة إلى قلب أوربا. وعلى إثر تقبلهم للوضع الجديد، يبدأ "الزعيم" في شرح خارطة الطريق التي ستمكنهم من تحقيق الأهداف المنوطة بهم.

حسن: من اليوم فصاعدا، علينا اتباع نهج التقية. احلقوا لحاكم، انتشروا بين الجموع لتتحولوا إلى أشخاص غير مرئيين، وتأكدوا باستمرار من أنكم خارج دائرة الرصد والمتابعة. ابتعدوا عن المساجد بما فيها المساجد غير النظامية لأنها ملآى بالمخبرين.. والأهم أن لا تواصل بيننا بالهاتف بعد اليوم إلا في الحالات شديدة الاستعجال. في عائلاتكم تبنوا الخطاب المعتدل، دخنوا واشربوا الخمر.. دافعوا عن أمريكا وإسرائيل إن اقتضى الأمر ذلك.. لا أحد يجب أن يشك في أمركم وفي حال احسستم بشكوك أحد أقربائكم فابتعدوا عنه وإن كانت امرأة فاقطعوا العلاقة بها.. علينا أيضا البحث عن السلاح.

هذا ما تعتقده الأجهزة الأمنية وتكرسه وسائل الإعلام في أذهان الناس. فالخطر على الدوام خارجي ومعتنقوه مستلبون وبدون إرادة. أما الواقع المحلي فوردي قوامه احترام حقوق الإنسان وفتح أبواب النجاح مشرعة أمام "المواطنين" دون اعتبار للعرق والدين.

لم يجد إدريس غير حانة تعري ليشتغل بها، وحسن محلا لبيع الأحذية مصدرا للرزق. لكنها مهن و"بروفايلات" تبعد عنهم الشبهات فقد صاروا في العرف الفرنسي "مندمجين" اجتماعيا وبعيدين عن مصدر الشرور في المساجد وأماكن العبادة. لم يهتم الساسة بأوضاع الضواحي واكتفوا بتحويلها إلى مجرد ورقة انتخابية للمزايدة بعيدا عن إيجاد الحلول الجذرية المحققة للمواطنة الحقة بدل الحديث عن اندماج.

فرنسا التي فرقت بين "مواطنيها" في الداخل لم تسلم منها دول أبعد ما تكون عن تهديد أمنها القومي. فالنظرة الاستعمارية الاستعلائية لا تزال تجد لها في الايليزيه ومختلف المؤسسات مكانا ومعتنقين.

داخل المطبخ يجلس سيدي مهموما. يدخل عليه سام.

سام: من الطبيعي أن تحس بعدم ارتياح.. أنا أيضا تأثرت بما حدث أمس.. لا أوافق على ما حدث.

سيدي: أنا أيضا. ربما لم أخلق لأكون مقاتلا.

سام: هناك طرق عديدة للقتال. هناك من يحمل السلاح وآخرون أكثر فائدة بطلب العلم وإعطاء النموذج.. أعتقد أنك بحاجة إلى إعادة التفكير في الموضوع.

سيدي: الجهاد واجب شرعي. كيف لي أن أكون مقاتلا إن لم أحارب؟

سام: لم أنت مهتم كثيرا بالقتال؟

سيدي: كان لي قريب بمالي. كان بمرتبة الأخ لي. أزوره كل صيف ونقضي بقية السنة في المحادثة عبر سكايب. كان حلمه أن يصبح طبيبا.. العام الماضي، وجه له جندي رصاصة في الرأس أردته قتيلا.. لم يكن قريبي جهاديا.

سام: أتفهم ما تحس به. لكن الرغبة في الثأر لا علاقة لها بالإسلام.

التعالي الاستعماري ومساندة كثير من ديكتاتوريات العالم جعلت الصراعات الخارجية تنتقل طبيعيا للداخل الفرنسي. إنها نتاج صناعة فرنسية داخلية لا يزيدها الاحتقان بين أبناء الضواحي، المصنفين أوغادا بالطبيعة، والشرطة إلا اشتعالا.

يدخل حسن على زملائه الثلاثة بعد فقدانهم سيدي الذي قتل على أيدي الشرطة قبلها بساعات.
يوسف: ما الذي قرروه؟

حسن: سنستمر.. كلنا متأثرون فقد فقدنا صديقا. لن يغير هذا شيئا.

إدريس: كان شابا صغيرا..

حسن: نحن في حرب.. لابد أن يموت بعضنا.

إدريس: هؤلاء يلجون الجنة مباشرة.. كان يتمنى الموت مقاتلا. لكنه مات كالكلب.

حسن: إدريس.. لقد مات بطلا.. إنه شهيد.

وحتى عندما أحس إدريس مع توالي الأحداث برغبة في التراجع، لم يكن بالإمكان تحقيق ذلك والتبريرات موجودة ولها وقعها على الشباب الطامح لتحقيق "العدالة" كما يعتقدها أو يراها متوافقة مع ما تعلم من "دين".

أعضاء الخلية الأربعة في اجتماع.

إدريس: علينا تغيير الهدف..

حسن: لستَ من يقرر.. لقد تلقينا الأمر وعلينا التنفيذ.

إدريس: أقصد أن نطلب منهم تغيير الهدف.

حسن: لم يعد ممكنا.

إدريس: لا أستطيع تنفيذ الأمر.. أنت من يقول أننا لسنا برابرة. ممثلو الدولة الفرنسية هم أهدافنا، مقر شرطة، ثكنة عسكرية.. لكن ليس ما تطلبه من النساء والأطفال.. أرفض قتل أبرياء.

يوسف: لأنك تعتقد أنهم يهتمون لأمر قتل أطفالنا في فلسطين..

إدريس: أطفالنا؟ على من تتحدث؟  أنت بروتاني (نسبة لمنطقة بروتانيا الفرنسية)..

يوسف: اخرس..

سام: أنت تتحدث هكذا لأنك لا تعرف من يصدر الأوامر.. قد يكون من المفيد أن يحدثنا مباشرة ليشرح لنا الأمر.

حسن: نحن في حرب، وفي كل حرب ضحايا مدنيون. هل يوافقك هذا التفسير؟ حربنا مقدسة وعليك احترام إرادة الله.

إدريس: لأنك تعتقد أن إرادة الله في قتل الأطفال؟

حسن: من تكون أنت لتعرف ما الذي يريده وما لا يريده؟

حسن: ستفعل ما أطلبه منك.

إدريس: أرفض ذلك.

ما الذي يدفع شبابا فرنسيا أو فرنسيا من أصل عربي وُلد في فرنسا وفيها ترعرع وكبر إلى مجاهل التطرف و"الحقد"؟ كان هذا السؤال الجوهري الذي طرحه الفرنسيون بعد كل هجمة تعرضت لها البلاد. والإجابة في الغالب الأعم تفترض استيراد الصراعات الخارجية إلى الأرض الفرنسية أو رغبة "المتطرفين الإسلاميين" في تهديد نموذج العيش الفرنسي.  وعندما تعرضت مدينة نيس لهجوم قتل فيه أكثر من ثمانين شخصا في يوم العيد الوطني الفرنسي لم تجد السلطات هناك من شيء تفعله غير سحب الفيلم الأمريكي (يوم الباستيل) من القاعات وهو الذي بدأ عرضه يوما واحدا قبل ذلك وبنى أحداثه على هجوم إرهابي على البلاد يوم عيدها الوطني، تماما كما حدث مع فيلم صُنِع في فرنسا.  

صُنِع في فرنسا..

في المشهد الأخير من الفيلم وبعد أن تمكن سام من إفشال مخطط الخلية وإنقاذ فرنسا، كان لابد له من إتمام المهمة التي كلفته بها المخابرات وهي الوصول إلى اسم من يصدر الأوامر.

سام: من يصدر الأوامر؟ لقد ذهبت إلى أفغانستان وقابلتهم.

حسن: أيها الغبي، لم أقابل أحدا. لا زعماء ولا قادة، ليس هناك من أحد غيري.

الواقع أن الخطر آت من الداخل كما كان مكتوبا على الملصق الدعائي للفيلم.