"مع الوقت علينا أن نكون في وضعية نقدم من خلالها لإفريقيا مزيدا من الوجه الإنساني" ستيفن بيكو - ناشط حقوقي راحل من جنوب إفريقيا.
رغم هذه الفوضى العارمة على الساحة الدولية، وجدت ألمانيا المنشغلة بتدفق اللاجئين، ومعضلة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والأزمة المتواصلة مع روسيا بشأن أوكرانيا وسورية وقضايا أخرى عالقة، وجدت الوقت اللازم للانطلاق نحو القارة الإفريقية ليس بإرسال الجنود والمشاركة في الحروب، بل بإطلاق سلسلة مشاريع تنموية ضخمة أحبت أن تطلق عليها "خطة مارشال".
ولهذه التسمية (كما يعرف الجميع) وقع تاريخي وعاطفي أيضا، لأن ألمانيا نفسها استفادت بصورة مباشرة من مشروع مارشال الأمريكي الشهير لإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية، التي تسببت فيها ألمانيا نفسها. كما أن للتسمية دلالات عديدة، في مقدمتها أن الخطة التاريخية المذكورة حققت بالفعل النجاح، أعادت أوروبا (وألمانيا بالطبع) إلى الحراك التنموي وشغلت معاول البناء.
لا يوجد رابح في هذا العالم من تدهور الأوضاع الاقتصادية في القارة الإفريقية. في الواقع هناك مخاطر متزايدة من ذلك، ليس فقط ضمن نطاق القارة بل خارجها أيضا. وإفريقيا عانت كثيرا الإهمال في العقود التي تلت انتهاء الحرب الثانية، وتركت بلدانٌ لمصيرها، بل إن فترة الحرب الباردة نالت هذه المنطقة من أضرارها كغيرها من مناطق العالم، لأن شكلت مناطق استقطاب للقوتين العظميين آنذاك. والأمر لا يحتاج إلى خبراء، لمعرفة أن القارة السمراء تنعم بمقومات تنموية لا بأس بها، المهم أن تكون هناك أدوات لها، والأهم أن وجود رقابة دولية عالية الجودة والحرص على إتمام المشاريع التي تنطلق وتتوقف، وتلك التي تبدأ ولا تنتهي، أو تنتهي بأقل ما هو مأمول منها.
وكل هذا بسبب الفساد الذي ليس حظرا (بالطبع) على القارة الإفريقية، لكن آثاره تظهر فيها بسرعة الضوء، من خلال وصول مستويات المعيشة إلى الحضيض، وهشاشة مستوى التعليم والصحة، وتردي الحفاظ على البيئة، إلى كل الأشكال المأساوية التي تصيب مجتمعات بأكملها. وما لا شك فيه أن هناك حكومات تسعى لإبقاء الوضع على ما هو عليه، والسبب يعرفه الجميع أيضا، وهو أن مصالحها تكمن في الخراب لا التنمية، واستمرارها يرتبط بترك الأمور كما هي، ومقاومة دعوات التغيير والنزاهة، أو حتى التقليل من معدلات الفساد. ورغم ذلك، يمكن التعاطي مع هذه الحقيقة المرة، من خلال إرادة دولية صادقة مشابهة لتلك التي تنطلق منها ألمانيا اليوم. فهذه الأخيرة تتحرك بمشروع "مارشال" ليس فقط من أجل إفريقيا، بل أيضا من أجل بقية العالم.
لا تزال الحكومة الألمانية في طور إطلاق المشروع، الذي سيتم الإعلان عنه في غضون الأسابيع المتبقية من العام الجاري، بل ربما قبل نهاية الشهر الجاري، على حد قول بعض المسؤولين الألمان، دون أن يلزموا أنفسهم رسميا بموعد كهذا. لكن رسميا تحدث وزير التنمية الألماني جيرد مولر عن أن أسابيع فقط تفصل الفترة الحالية والإعلان عن تفاصيل خطة "مارشال". وهي في الواقع فترة قصيرة، ما بين بدء الحراك والإعلان عن هذه الخطة - المشروع. ويقول مولر "ينبغي أن نستثمر في هذه الدول وأن نمنح الناس أفقا للمستقبل". ويشرح بوضوح وصراحة قائلا "إذا لم يستطع شبان إفريقيا العثور على عمل أو مستقبل في بلادهم، فلن يشق مئات الآلاف طريقهم نحو أوروبا بل الملايين".
وفي الطريق غير الشرعية المتقطعة من إفريقيا إلى أوروبا، شاهد العالم كيف يموت العشرات من البشر من كل الأعمار، في ظروف بائسة محزنة وبشعة. ووفقا للمنظمة الدولية للهجرة عبر قرابة 160 ألف إنسان من إفريقيا إلى إيطاليا (أقرب بلد أوروبي لهم) العام الجاري، لقي 4220 منهم على الأقل حتفهم في هذه الهجرة المروعة. دون أن ننسى بالطبع، أن هناك ما يزيد على 20 مليون نازح ضمن البلدان الإفريقية نفسها. إن كل هذه المآسي إضافة إلى مصائب غياب التنمية في أغلبية البلدان الإفريقية، يمكن أن تزول بصورة عملية ومنهجية، من خلال مشروع "مارشال" الألماني لإفريقيا، وسيزول بسرعة أكبر، إذا ما انضمت لاحقا بلدان قادرة إليه، لتسريع عجلته.
المطلوب للقارة الإفريقية كثير، لكن هذا "الكثير" يمكن أن يتراجع من خلال خطط عاجلة تستهدف التنمية بصيغتها الشاملة، لا سيما فيما يرتبط بتوفير فرص العمل والتدريب والتأهيل والتعليم للشباب الإفريقي. كل هذا يبني الاقتصادات حقا، ويعزز اقتصادات قطعت أشواطا لا بأس بها على صعيد التنمية، حتى من جهة الشفافية في بعض بلدان القارة.
ومع زيادة الاستثمارات الحكومية والخاصة، فإن العجلة سرعان ما ستبدأ، والمحصلة ستظهر على الساحة بالشكل الأمثل. هناك كثير من الأدوات التي يمكن لألمانيا وغيرها استخدامها لإتمام مشروع هائل كهذا دون أن يتعرض لـ"العدوان". وهي أدوات تعرفها البلدان القادرة الصادقة أكثر من غيرها.
الاقتصادية السعودية