في خطوة كانت متوقعة منذ فترة، ألقت الشرطة التركية القبض على عدد من نواب حزب الشعوب الديمقراطية (HDP) للتحقيق معهم في اتهامات كانت قد وجهت لهم مسبقا. فقد استمر تحفظ الأجهزة الأمنية على تسعة من نواب الحزب منهم رئيساه التشاركييان صلاح الدين دميرطاش وفيغان يوكساكداغ، في حين أطلق سراح ثلاثة، وما زال هناك طلب إحضار بحق ثلاثة آخرين يعتقد أنهم خارج البلاد.
في المقابل، وكَرَدٍّ على الاعتقالات، علقت الكتلة البرلمانية للحزب مشاركتها في أعمال البرلمان التشريعية، معتبرة ما حصل قرارا سياسيا وتجاوزا للأعراف الديمقراطية.
بنظرة معمقة، يبدو أن للأمر بعدين، أحدهما سياسي يتعلق بالتوقيت والتداعيات والثاني قانوني - حقوقي يرتبط بالسياق والمسوغات.
فعلى الصعيد الحقوقي - القانوني، ثمة مسوغات ومقدمات وخطوات متتالية ومتدحرجة أوصلت الأمر لمشهده الحالي الذي كان متوقعا كما أسلفت. فاعتقال بعض نواب الحزب أتى كإجراء قضائي متبع بعد أن امتنعوا عن الذهاب طواعية للإدلاء بإفاداتهم بخصوص القضايا المرفوعة ضدهم، أسوة بغيرهم من نواب الأحزاب الأخرى على مدى الأسابيع الماضية.
ففي 20 أيار/مايو الماضي، أقر مجلس الشعب الكبير التركي (البرلمان) تعديلا دستوريا يتيح التحقيق مع 148 نائبا من الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان (إضافة لنائب مستقل) في التهم الموجهة لهم حتى ذلك الوقت، كان منهم 53 من حزب الشعوب الديمقراطية (الرقم الأكبر لحزب الشعب الجمهوري بـ 55 نائبا). وبينما سارت عملية الإدلاء بالإفادات دون عوائق تذكر بالنسبة للباقين، فضل نواب حزب الشعوب عدم التجاوب مع التحقيقات بشكل طوعي.
بيد أن المشكلة أعقد من ذلك بكثير، فعلى عكس نواب الأحزاب الأخرى المطلوبين للتحقيق في قضايا أغلبها بسيط وله علاقة بالخطاب والأسلوب (مثل إهانة الأشخاص والمؤسسات)، وجهت لنواب الشعوب الديمقراطية - القومي الكردي - تهم تتعلق بدعم الإرهاب والعلاقات مع حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي المصنفين على قوائم الإرهاب في تركيا. ومسوغات هذه الاتهامات عديدة، من بينها إعلان عدد من المناطق والبلديات في مناطق الأغلبية الكردية جنوب شرقي البلاد "إدارات ذاتية" في آب/أغسطس 2015، ومشاركة بعض النواب في جنازات انتحاريين فجروا أنفسهم وقتلوا العشرات من المواطنين في بعض ميادين ومدن تركيا، إضافة لتصريح رئيس الحزب التشاركية فيغان يوكساكداغ أنهم "يستندون" إلى حزب الاتحاد الديمقراطي ويعتمدون عليه.
إذن، في المحصلة، لا يبدو ثمة تجاوزات كبيرة بل سياق متوقع في المسار القانوني، بيد أن بحث الأمر من الزاوية السياسية يظهر أبعاداً أخرى للموضوع، على صعيدي التوقيت والتداعيات.
فأولاً، تأتي هذه الخطوة بعد شهور طويلة - أكثر من سنة - من المواجهة العسكرية المباشرة مع حزب العمال الكردستاني الذي قلب طاولة الحل السياسي واستأنف عملياته العسكرية في تموز/يوليو 2015 وما رافق ذلك من تآكل لشعبية الشعوب الديمقراطية الذي يعتبر ذراعه السياسية. وبالتالي يمكن اعتبار الأمر تضييقاً للخناق على الحزب وفتحاً لآفاق/بدائل أخرى جديدة.
وثانيا، تزامنت الاعتقالات مع فترة يبدو فيها حزب العدالة والتنمية أحرص ما يكون على رضى حزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهجلي صاحب الموقف الحاد من المسألة الكردية وحزب الشعوب الديمقراطية تحديداً، بسبب الحاجة له في موضوع التعديل الدستوري المتعلق بالنظام السياسي في البلاد، ولعل من اللافت أن الاعتقالات أتت بعد ساعات قليلة من أول لقاء انفرادي بين أردوغان وبهجلي في القصر الرئاسي.
وثالثا، سبقت هذه الاعتقالات إعلان قوات سوريا الديمقراطية بدء عملية تحرير الرقة من تنظيم الدولة "داعش" تحت مسمى "غضب الفرات" والتي يبدو أن تركيا قد استثنيت منها، على الأقل حتى الآن، بعد أن كانت الأخيرة هي من اشترطت عدم مشاركة القوى الكردية في العملية. ولذا، فثمة من يربط بين الملف الكردي الداخلي ونظيره الإقليمي ولاسيما السوري، إما بطريقة الموازنات أو بأسلوب التناول كملف واحد.
وأما على صعيد التداعيات، فما زال الوقت باكراً لحصرها وتعدادها، لكن تاريخ المسألة الكردية في تركيا والمشهد السياسي والحزبي التركي الداخلي حالياً إضافة إلى علاقات تركيا الخارجية، تشير إلى أن الأمر لن يمر دون تبعات، ولعل إعلان الحزب عن تعليق مشاركته في جلسات البرلمان هو مجرد البداية أو رأس جبل الجليد.
ففي المقام الأول، سيزيد ذلك من الضغوط على الحكومة التركية وأردوغان بخصوص الديمقراطية والحريات، حين يضاف إلى سلسلة الإجراءات المتبعة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة بما تضمن إقصاء عشرات الآلاف عن وظائفهم والتحقيق مع عشرات الآلاف أيضاً وإغلاق الكثير من وسائل الإعلام، ولعل في مواقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إشارات واضحة على ما أسموه "قلقاً" من الإجراءات السلطوية التركية "في مواجهة المعارضة".
ثم إن الأمر يزيد من حدة الاستقطاب السياسي في البلاد في وقت هي في أمس الحاجة فيه للُّحمة الداخلية، في ظل حالة الطوارئ بعد الانقلاب، وعلى مشارف مناقشة تغيير نظام البلاد إلى رئاسي، وبالتزامن مع عمليتي درع الفرات في سوريا وتحرير الموصل في العراق، فضلاً عن الإعلان عن بدء عملية "غضب الفرات" بخصوص الرقة.
وأخيراً، لا شك أن للأمر تداعياته على مجمل الملف الكردي في تركيا، الذي يعرف الطرفان أن المقاربة الأمنية - العسكرية لا تكفي لحله، وبالتالي فثمة ضرورة لقياس مدى تأثير خطوة كهذه على بقاء الحركة السياسية الكردية اليسارية ضمن المضمار السياسي وعدم اندفاعها نحو العمل السري مرة أخرى وبالتالي تخليها عن المسار السياسي نهائيا أو مرحليا.
صحيح أن حزب الشعوب الديمقراطية ليس الممثل الوحيد للمكون الكردي في تركيا، حيث ثمة أحزاب "كردية" أخرى ذات أيديولوجيات مغايرة، فضلا عن التمثيل الكردي في الأحزاب الأخرى ولاسيما العدالة والتنمية الحاكم الذي يضم عددا من النواب والوزراء الأكراد أحدهم نائب رئيس الحكومة (يتردد أن أصول رئيس الوزراء نفسه تنحدر من عائلة كردية)، لكنه في نهاية المطاف يتبنى سياسات قومية كردية وهو الأقوى بين الأحزاب من هذا التوجه، فضلا عن علاقته شبه العضوية مع حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً انفصالية ضد الدولة التركية منذ 1984.
من هذا المنطلق، ينبغي الحرص على بقائه/إبقائه في الساحة السياسية والدستورية (البرلمان) حتى ولو كان ذلك ضد رغباته، وضد مساعيه للعودة للعمل السري وسردية المظلومية رغبة في استعادة شعبيته بين الأكراد ولاسيما الشباب منهم (كتبت سابقاً أكثر من مقال عن تعمد الحزب انتهاك الدستور). ومن جهة أخرى، فعلاقة الحزب مع الكردستاني قد تجعل منه ركناً من أركان الحل - حين يحين وقت الحل السياسي - باعتبار أن من كان جزءاً من المشكلة يمكن أن يكون أحيانا جزءا من إلحل.
إن مقاربة الحل للمشكلة الكردية في تركيا ينبغي أن تعتمد عدة مسارات متلازمة متكاملة، المواجهة الأمنية أحدها، وثانيها الإصرار على الإصلاحات القانونية والدستورية المتعلقة بحقوق الأكراد، وثالثها الاستمرار في المشاريع التنموية في مناطق الأغلبية الكردية، ورابعها إنشاء و/أو دعم بدائل ومنافسي الحركة اليسارية الكردية (حزبي العمال الكردستاني والشعوب الديمقراطية) التي تحاول احتكار الحديث باسم الأكراد، والعودة في أقرب وقت ممكن للحل السياسي ولو باسم جديد ومعادلة جديدة وفاعلين جدد.