كتاب عربي 21

الاستباق الانتخابي في تونس

1300x600
عند الغنم يحمد القوم السُّرى غير أن القائد ليس خالد بن الوليد  والمعركة أبعد عن اليرموك وشرف الفتوح والتأسيس بل هي في تونس ومن أجل إبقاء الوضع على ما هو عليه. القوم شرعوا في تهيئة الأرض القانونية والمؤسساتية لربح انتخابات 2019 دون شركاء وخاصة دون حزب النهضة بما يؤشر على نهاية الهدنة بين النظام القديم وحزب النهضة الإسلامي. والأسئلة تفرض نفسها على التحليل بعد تركيب مؤشرات كثيرة تتجمع في أفق الإعداد للانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية رغم أني أكتب هذا صبيحة انفجار كتلة النداء المتبقية إلى كتلتين، فالنداء ليس إلا واجهة لمنظومة كامنة تخرج فقط في المواعيد الانتخابية.

الوضع الآن واضح بما فيه الكفاية

واضح بما يكفي ليجعل الخائفين من النهضة أشدّ حذرا. إذ يبدو أن زيارة الرئيس الباجي لمؤتمر النهضة قد أرعبته وجعلته يستبق أن ينتهي البلد بين يدي صديقه اللدود الغنوشي.

ظاهر المشهد فيه حزب واحد منظم وقوي ويعد ماكينته الانتخابية. تتخلله صراعات وأصوات متمردة على طريقة إدارة الحزب لكنها تعلن الولاء لحزبها وإخلاصها لقيادته وزعيمه، وتتحرك تحت سقف مقررات المؤتمر العاشر. وكل صيحة عليهم تترجم بتلاحم أشد.

بقية المكونات يظهر فيها أولا حزب النداء مشتتا، وتعلو أصوات خصوماته على أصوات عقلائه، وفي ليلة الأول من أكتوبر 2016 شهد انفجارا جديدا، لكن رغم ذلك فإن استطلاعات الرأي مازالت تعطيه المكانة الأولى بقاعدة انتخابية كبيرة ربما يحركها خوفها من التغيير أكثر من الإيمان بالوطن وإنقاذه. ولا شك أن عقلية الغنيمة التي تربت عليها قواعده التجمعية واليسارية لا تزال تجمّعه على الأرض ولا تسمح لاختلافات الصفوف الأولى فيه أن تصل إلى القاع وهو يبدو غير مهتم بفشله في إدارة البلد بل لعل فشله سبب متين لتلاحمه فالكِبر بعض دوافع التحزب.

كما تظهر فيه ثانيا قوى اليسار القليلة العدد لكن الفعالة في خلق الصراعات وإدارتها بوسائط مختلفة منها عرض خدماتها على المنظومة القديمة في قطع الطريق على النهضة وهو دور تتقنه وتتميز فيه. وهاهي تعرض خدماتها من جديد لنفس الغايات.

كما يظهر فيها الشتات الحزبي المنتمي خطابيا للثورة لكنه لم يرتق بعد فوق خلافات زعمائه الصغار ليشكل كتلة سياسية فعّالة في معارضة منتمية عمليا لا بالأماني لحركة الهامش المنتفض بعد. وإن كانت بعض مؤشرات الالتقاء المحتشمة تعبر عن نفسها، وقد تصطدم في أية لحظة بنرجسية الزعامات، وهو عائقها الأبرز.

هذا الوضع يجعل النداء وكل المنظومة القديمة تبحث عن استباق انتخابي ولو بتوليف ما لا يؤلف لتبقي بين يديها سلطة هي أعرف الناس بأنها لو ضاعت منها مرة ثانية في 2019 فلن تستردها أبدا.

هل يمكن إعادة توليف جبهة الإنقاذ لسنة 2013؟

حركة حثيثة في القصر لإعادة توليف جبهة الإنقاذ في أفق انتخابي وقد بدأ الرئيس يتكلم عن جبهة وطنية من الواضح أنها ستكون دون حزب النهضة بل ضدها.

جبهة الإنقاذ التي أسقطت حكومة الترويكا تآلفت أساسا من المنظومة القديمة (حزب التجمع وفلوله التي تراصّت تحت قيادة الباجي في حزب النداء والذي بالمناسبة لم يعقد مؤتمره الأول بعد (ولن يعقده وهذا جزم لا رجم). وكل فصائل اليسار الراديكالي واليسار الثقافي أو ما يسمى على سبيل السخرية بحراس النمط التونسي مع بعض الطموحين إلى السلطة الذين يحركهم عداء مستحكم للنهضة والمرزوقي شريكها في إدارة المرحلة السابقة.

كان من المنتظر أن تدخل مكونات هذه الجبهة في حلف انتخابي سنة 2014 يتوّج تحالفها في اعتصام الرحيل. لكن الباجي استغنى عن خدماتها ليفوز وحده وكان يمني النفس بانتصار كاسح وكاسر للنهضة لكنه عجز دونه بما جعله مضطرا لإسناد حكمه بغريمه الأثقل وزنا مما ضمن له تهدئة واستمرارا حتى اللحظة، وورطه في شريك طويل النفس ومناور. لكنه عاد يغازل مكونات الجبهة من جديد والتي أظهرت استجابة سريعة بما يؤشر على إمكان توليف هذه الجبهة مرة أخرى (وهذا سر اللقاءات المكثفة للرئيس مع زعامات اليسار). وقد يصل هذا الاحتمال إلى السرعة القصوى بإعادة تركيب حكومة الشاهد في بداية 2017 (مع بدء تنفيذ الموازنة ) دون حزب النهضة، إذ يبدو أن حسبته قد حسبت ووجد أن لديه  122 نائبا جاهزين لإسناده، بما يغنيه عن كتلة النهضة في البرلمان فيحيلها إلى المعارضة، أو يجبرها على إسناده دون مقابل.

التعيينات الجارية تعيينات انتخابية بامتياز

احتمال توليف جبهة الإنقاذ بنفس المكونات ليس مضمونا بالنظر إلى ورطة اليسار في خطاب مزايدة اجتماعية رغم أنه يخالفه على الأرض كل يوم، لذلك فإن الباجي (ورئيس حكومته الصغير) قد شرعوا بعد في تهيئة الإدارة للانتخابات تقضي على النهضة أو على الأقل تقزمها حتى لا تكون شيئا مذكورا. وقراءة التعيينات الأخيرة تكشف الخبرة الاستباقية لسياسي تربَّى في المناورة حتى أتقنها.

الولاة (المحافظون) الآن في صفه ومن شيعته والمعتمدون يختارهم (حبة، حبة) على أساس الولاء لشخصه وخاصة على أساس عداء مستحكم للنهضة (وهنا نجد اليسار الثوري يسرّب أبناءه بذكاء منقطع النظير). وفوق ذلك يناور الباجي بكتلته النيابية لتأجيل الانتخابات البلدية لأطول فترة ممكنة يراها كافية للاستعداد ضد ماكينة النهضة الجاهزة تقريبا. لقد ربح شهر أيلول (سبتمبر) في نقاش السماح للقوات النظامية في الانتخاب، وستظهر قضية أخرى للنقاش هدفها فقط التأجيل لمزيد التجهيز لانتخابات يضمن توجيهها (تزييفها) بالإدارة.

قد يقول البعض بأن الانتخابات محمية بقانون انتخابي وهيئة مستقلة وإشراف محايد من الجيش، لكن انتخابات 2014 أيضا كانت كذلك، لكن الموتى صوتوا بكثافة حتى بكى السيد صرصار رئيس هيئة الانتخابات وخاف أن يخسف به لو اعترض على النتائج.

النهضة في وضعية الخيار الوحيد

حشر حزب النهضة نفسه في ممر ضيق. ووضع كل بيضه في سلة الباجي، وقطع على نفسه طرق التراجع عن حلف لا يقبل وده. فكأنه يعيش حبا من طرف واحد. وقد انطلقت في المدة الأخيرة حملة إعلامية شرسة تذكر بحملات سابقة على أيام حكمه، ومن نفس الجهات والأشخاص تقريبا ضد رئيسه وضد قياداته في محاولة لشق صفه من الداخل. ولم تشفع له سنوات التعاون والتوافق مع المنظومة. فلا الإمساك كان بالمعروف (الإقصاء من التعيينات)، ولا التسريح سيكون بإحسان. ويبدو أن النداء (المنظومة القديمة) قد دخلت مرحلة طلاق الإنشاء (الخلع) وتبدو قادرة على دفع الغرامات السياسية لمثل هذا الخلع بما كشف أن كل التوافق كان لربح الوقت والاستعداد لتغول مطلق يسمح بكل المحرمات الدستورية وإغلاق قوس الثورة نهائيا.
هذه الوضعية مكلفة سياسيا لحزب النهضة، لأنه بين خيارين مرين:

مزيد الالتصاق بالنداء وترويج خطاب التوافق لإنقاذ البلد وهو خطاب لم يعد يقنع أحدا. فالنداء مشمئز من هذا الشريك الثقيل.

أو فك الارتباط مع النداء والالتفات إلى الشارع المنتفض، وإذا التفت الآن إلى مكونات الشارع المنتفض ستكون التفاتته مهزومة. وسيدان لتحالفه مع النداء وسيحاسب انتخابيا. ورغم أن الشتات الحزبي لن يغنم الكثير من ذلك إلا أنه يستطيب لعن النهضة على التحالف معها بما يجعل الجسور بينهما مقطوعة. فخطاب المزايدة الشعبوية لا يزال مهيمنا لديه والتطهر السياسي على حسابه غواية لذيذة.

بحيث سيكون المشهد في أفق 2019 مركبا من نهضة وحيدة معزولة عن الشارع  لم تعوّل عليه وعن النخبة التي أرادت الاندماج فيها فنبذتها وتكون المنظومة (بمكوناتها اليسارية/ الحداثية) في طريق مفتوح لاستعادة كل أمجادها وبوسائلها المعتادة، بينما يرقص الثوريون طانقو بائس بلا شريكة.

في انتظار معجزة تونسية

لن (زمخشرية) تتفكك المنظومة القديمة من تلقاء نفسها، بل ستلحم حولها كل منتهز فرص، وكل طماع، فالسلطة غنيمة ورشوة. والمنظومة تحسن الجزاء بقدر الولاء.

لن تجسّر الهوة بين النهضة كتيار شعبي يجمع مفقرين كثر مع الشارع المنتفض، فقد خاب رجاء الكثيرين في النهضة. والمنتمون بعد إلى الهامش لديهم أيضا حسبتهم الانتخابية، فمع النهضة يتحولون إلى ملاحق. والنهضة تحسب حساب الضغوط الدولية عليها أكثر، وتعرف أن الهامش لن يحميها من شروط دولية لا تريدها ميتة ولا ترحب بها حية وفاعلة.

لن تنتهي معركة اليسار مع الإسلاميين لتفقد المنظومة شريكها اليساري الذي تبطش به. واليسار رابح في هذه الحسبة ربحا وفيرا. فنصيبه من التعيينات فاق حجمه في الشارع والبرلمان.

ذاهبون إلى انتخابات مزيفة ما لم تحدث معجزة في المحيط العربي يحرض أملا جديدا في شارع متوتر ومحبط ليعيد هز المشهد ونفض غبار مرحلة الفشل والتردد. في انتظار الانتخابات سنواجه موازنة تفقير الفقراء والمسح على رؤوس الفساد بريشة ناعمة.