جاء قرار تأجيل الانتخابات البلدية صادماً، ولكن غير مفاجىء قياساً للتطورات والمستجدات السياسية والانتخابية في الأسبوعين الماضيين. ولا شك أن ثمة أسباب عديدة لهذا القرار القضائي المسيّس، إلا أن العبرة أو الاستخلاص الأساس، هي أن النخبة السياسية، تحديداً قيادة السلطة الحالية لا تملك الإرادة اللازمة والمطلوبة حتى لإلقاء حجر صغير في المياه المؤسساتية الفلسطينية الراكدة.
مثلت منظمة التحرير استنساخا فلسطينيا ملطفا لمنظومة الاستبداد العربية التي حكمت في حقبة ما بعد الاستقلال خاصة في الحواضر الكبرى الثلاث القاهرة دمشق وبغداد . أما السلطة فكانت استنساخ أكثر فظاظة وفجاجة لمنظومة الاستبداد تلك، التي أسقطتها الثورات العربية فيما بعد. ومن هنا فإن الحديث عن قضاء فلسطينى مستقل هو كذبة كبرى أو مزحة سمجة في أحسن الأحوال في منظومات الاستبداد، جمهوريات وسلطات الموز، ما من شيء مستقل أو يتحرك بعيداً عن إرادة ومشيئة الحاكم الذي يملك بيديه كل المفاتيح، ويتحكم بكل السلطات والمؤسسات.
بناء على ما سبق فان قرار تأجيل الانتخابات مسيس بامتياز ويعود برأيي لعدّة أسباب سياسية وحزبية أدت مجتمعة إلى الهرب من الاستحقاق البلدي بعدما كانت حركة الجهاد الإسلامي أول الهاربين في الحقيقة من ساحة المنافسة الانتخابية.
القرار القضائي المسيّس لمحكمة العدل العليا، أكد التكهنات التي اعتبرت أن قرار إجراء الانتخابات اتخذ بناء على فرضية أن حماس لن تدخل الانتخابات، وسترتكب نفس خطأ المقاطعة الذي ارتكبته منذ أربع سنوات، وأن فتح ستنافس نفسها في النهاية، وطبعاً تحت مظلة الرئيس القائد الحاكم بأمره.
قرار حماس المفاجئ أربك قادة السلطة في البداية، إلا أن ثمة فكرة أو قناعة سادت بينهم مفادها أن بالإمكان الانتصار في الانتخابات تحديداً في الضفة الغربية في ظل القبضة الأمنية القوية مع فرصة جدية لتحقيق نتائج لافتة، وحتى الانتصار لو نسبيا في قطاع غزة أيضاً.
إلا أن الانقسام الفتحاوي كان أعمق مما تصور قادة السلطة، ورغم الفوز بالتزكية في نصف المجالس البلدية في الضفة الغربية إلا أن معظمها ريفية غير حضرية أو مدينية صغرى، بينما بقيت المعركة مستعرة في البلديات الكبرى، مع تنافس فتحاوي فتحاوي في الخليل طولكرم وأريحا، وقوائم لشخصيات فتحاوية معتبرة في مواجهة قائمة الحركة الرسمية - أي فوز القوائم المستقلة أو تلك المدعومة من حماس ما يعني هزيمة مؤكدة للقائمة الفتحاوية الرسمية - وخشية من هزيمة محتملة في مدينة نابلس كبرى مدن الضفة بعد جريمة تصفية أبو العبد حلاوة بدم بارد، وحالة الغليان التي تعيشها قواعد الحركة في المدينة. ناهيك عن الاعتراضات على القائمة التي شكلتها الحركة، ومن يدير الشأن الفتحاوي في جبل النار بشكل عام.
ومع استغلال حماس للثغرة القانونية والتنظيمية التي أعطت الفصل في الشأن الانتخابي للمحاكم الابتدائية المحلية للتخلص من قوائم فتح في معاقلها الأساسية، خان يونس وعبسان، باتت الصورة واضحة فتح لن تحقق الانتصار، وستكون هزيمة وربما مدوية أيضا خاصة في البلديات الكبرى الثلاث الخليل نابلس وغزة.
ثمة سبب أساسي جوهري آخر ساهم في قرار تأجيل الانتخابات، وعملياً إلغائها. ويتمثل بالتدخل والضغوط المصرية الأردنية لإعادة القيادي السابق المفصول محمد دحلان لحركة فتح ودفعه ليس فقط لمواجهة حماس في الانتخابات البلدية، لمنعها من الانتصار، وإنما حتى لقيادة الشعب الفلسطيني فيما بعد الدخول الأردني القوي إلى جانب مصر، جاء تحت ضغط الإخوانو فوبيا والخشية من فوز محتمل لحماس يؤثر معنوياً سياسياً وإعلامياً على نتائج الانتخابات البرلمانية الأردنية نفسها، أما مصرياً وإماراتياً فقد جرى التركيز دائما على فكرة قتال الإسلام السياسي، إقصاء حركاته وأحزابه من المشهد السياسي والحزبي في المنطقة، واعتبار دحلان بالتالي الذراع أو الأداة المناسبة لذلك في فلسطين وقد مثلت الانتخابات البلدية فرصة مناسبة لتصعيد الضغوط وتسريع وتيرة التدخل لإعادة دحلان ورجاله لحركة فتح تحت لافتة ترتيب صفوفها وتوحيدها. والان يفترض ان يخفف قرار التأجيل تلك الضغوط، وقد يفرغها حتى من محتواها ويجعلها غير ذات جدوى.
طبعا يجرى الحديث كذلك عن ضغوط خارجية من الاتحاد الأوروبي، وكذلك منظمات مجتمع مدني دولية وتهديدات بعدم تمويل أي مجالس بلدية يفوز بها مقربون أو مدعومون من حماس خاصة بعد الحملة الإسرائيلية المركزة ضد المنظمات الدولية بحجة دعمها للحركة الإسلامية بغزة، ما ضاعف الضغوط السياسية والإعلامية على تلك المنظمات وجعلها أكثر تردداً وحذراً في التعاطي مع الحركة أوالمستقلين المقربين منها.
خطأ أو أخطاء حماس ساهمت بالتأكيد في القرار القضائي المسيّس، فليس من المعقول أن تقدم الحركة اعتراضات على كل قوائم حركة فتح في قطاع غزة - لشطبها قضائياً فيما بعد حسب الحاجات السياسية والحزبية الانتخابية من قبل المحاكم الابتدائية المختصة التابعة لها - ورغم أن لجنة الانتخابات المركزية شطبت أصلا خمس قوائم لفتح، إلا أن القضاء المسيّس في غزة شطب خمس أخرى في خان يونس وعبسان ما نال من المنافسة الانتخابية بشكل جدي، في غزة حيث تم شطب ثلث قوائم فتح تقريباً، مع اعتبار أحكام المحاكم الابتدائية المحلية قطعية ونهائية، وهو ما مثل ثغرة كبرى في القانون المنظم لعمل لجنة الانتخابات.
مع ذلك فإن تصرفات وأخطاء حماس كانت عامل هامشي فرعي وليس أساسي وجوهري كون الانتخابات كانت ستؤجل أو تلغي في كل الأحوال خاصة بعدما اتضح لقيادة فتح أن الحركة المترهلة والهرمة والمنقسمة، عاجزة عن النهوض أو ترتيب صفوفها وتوحيدها حتى مع الضغوط العربية المستجدة.
أكدت مجريات العملية الانتخابية البلدية منذ حزيران حتى أيلول، كذلك ومرة أخرى غياب تيار ثالث في مواجهة الحركتين المتنافستين فتح وحماس أو حتى المتنافسين داخل فتح نفسها، وعجز فصائل اليسار-والجهاد الإسلامى طبعاً- عن فرض التحدي على الحركتين أو خلق حالة شعبية وجماهيرية متماسكة، تنتج ضغط سياسى وإعلامى جدي يحول دون الهرب من الاستحقاق البلدي وتفرض المضي في العملية الانتخابية حتى النهاية.
عموماً أظهر القرار القضائي المسيس بتأجيل الانتخابات البلدية، مدى بؤس وعجز القيادة الحالية، ورغم مواجهتها المحقة للضغوط العربية - العائدة لأسباب شخصية فئوية ضيقة – إلا أنها لا تمتلك الإرادة الصادقة لترتيب جدي ديموقراطي شفاف ونزيه للبيت الفلسطيني، لا حزبياً ولا وطنياً والأخطر والأكثر إيلاماً أن القرار أظهر مدى تغلغل وتعمق الانقسام وصعوبة، وربما استحالة التخلص منه و إنهائه أقله في المدى المنظور، علماً أن الانتخابات البلدية، وفي أحسن الأحوال لم تكن سوى حجر صغير في البركة السياسية والمؤسساتية الراكدة على أمل أن تخلق سيرورة لاحقة تؤدي إلى تسريع وتيرة المصالحة والذهاب إلى الحزمة الانتخابية الكاملة ضمن تصور وطني أو استراتيجي شامل لإدارة الصراع مع الاحتلال ما اتضح أنه ليس سوى سراب، وأن الانقسام للأسف باق ويتمدد حزبياً سياسياً وجغرافياً أيضاً.