يعتبر المؤرخون أن الاجتياح التتري للعالم الإسلامي في القرن السابع الهجري أعظم الكوارث التي داهمت الأمة، فابن الأثير الذي هو أقرب المؤرخين لهذه المحنة، قال عن محنة التتار: "فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يُدانيها".
مع العلم أن ابن الأثير المتوفي عام 630هـ، لم يشهد أحداث سقوط بغداد على يد التتار عام 656هـ، التي تفوق الأولى في هَوْلها.
كثيرا ما قرأنا عن محنة التتار، لكن قلما نتعرض للبدايات والأسباب، التي قد يعجب القارئ من أننا نحن المسلمين جزء منها.
كان جنكيز خان قد دخل في هدنة مع الدولة الخوارزمية المستقلة عن الخلافة العباسية، وذلك عندما شعر بقوة تلك الدولة واتساع رقعتها، فأرسل ملك التتار مجموعة من التجار إلى الدولة الخوارزمية، فما إن وصلوا إلى إحدى ولاياتها، حتى أرسل نائبها إلى خوارزم شاه يخبره بوصول التجار وعِظم ما لديهم من أموال.
وفي حماقة سياسية ظاهرة، أمره خوارزم شاه بقتلهم وسلب أموالهم، فأرسل إليه جنكيز خان يتوعده، فما كان منه إلا أن قتل الرسول وحلق لحى مرافقيه وأرسلهم إلى ملك التتار برسالة يتوعده فيها بالمسير إليه للقتال، فكانت بداية الزحف التتري الهمجي على ديار الإسلام.
كثيرٌ ممن تناولوا هذه القضية قاموا بتسطيحها وتهميش دورها في الاجتياح المغولي، بدعوى أن الهجمات تم التخطيط لها قبْلَ الحادث، وأنها تحصيل حاصل.
نعم، مما لا شك فيه أن جنكيز خان كانت عينه على تلك الممالك، لكن هذه الحادثة التي رويناها كما وردت في البداية والنهاية لابن كثير، والكامل لابن الأثير، عجّلت بلا شك بالهجوم، ودفعت جنكيز خان إلى الانتقال من خانة الموادعة إلى خانة الدفاع عن سمعته الحربية قبل الموعد الذي خطط له.
أخطأ خوارزم شاه أولا بقتل التجار المُستأمنين الذين لا يحل قتلهم، ولو كانوا غير مسلمين كما قررت الشريعة.
وأخطأ ثانيا في أنه استعجل الشر التتري في وقت كان العالم الإسلامي قد دب فيه الضعف والتشرذم والاحتراب بين الملوك، مما أفقد الدولة الخوارزمية قوة النصير والمعين.
وأخطأ ثالثا في عدم تقدير قوة خصمه، الذي دانت له ممالك الصين، واشتهر جيشه بالوحشية والبسالة في القتال.
وأخطأ رابعا، في أنه أسقط الشأن العام للدولة والأمة من حساباته، من أجل أطماع أو حسابات شخصية ضيقة.
وكأن التاريخ يعيد نفسه بصورة أو بأخرى، فكانت أحداث 11 سبتمبر التي نابت فيها القاعدة عن الأمة، وتصرفت باسمها في أخطر أحداث العصر، فاستعجلت الشر الأمريكي الذي تحاك خططه في الظلام، ليتحول بين عشية وضحاها إلى طائرات وصواريخ تقصف المدنيين في أفغانستان والعراق، وتحولهما إلى أطلال.
كنت على حداثة سني وبدافع التشفي في الغرور الأمريكي، من المصفقين والمهللين لتلك الضربة الموجهة إلى العربدة الأمريكية في العالم الإسلامي، وعميتُ كما عمي الكثير عن النتائج الكارثية لها، عندما أعلنت أمريكا الحرب على الإرهاب، بكل ما يمكن أن يندرج تحت هذه الكلمة الفضفاضة.
الغزو الأمريكي لأفغانستان وإسقاط حكومة طالبان، وتنصيب حكومة عميلة.
الهجمة التترية المعاصرة للأمريكان على العراق وإسقاط نظام صدام الذي كان شوكة في حلق إيران، والشبح الذي تخشاه إسرائيل.
مزيد من التفكك والضعف والعمالة في العالم الإسلامي الذي رأى معظم حكامه الارتماء الكامل في أحضان التبعية للولايات المتحدة، واستجابوا للإملاءات الأمريكية في شؤونهم الداخلية بصورة غير مسبوقة.
نتائج كارثية يطول لسردها المقام، اعتَذرَ لها الكثيرون وبرروا لها بالأجندة الأمريكية، وقالوا إن ضرب أفغانستان والعراق كائن لا محالة، وتم التخطيط له منذ أمد، فهو كذلك تحصيل حاصل.
نعم هو تحصيل حاصل، ولست ممن يرفضون نظرية الضلوع الأمريكي أو الصهيوني في الأحداث، ولست أعارض القول بأن الضربات تم تمريرها لتكون ذريعة للغارة الأمريكية على العالم الإسلامي.
لكن مرة أخرى نقع فريسة لسيطرة الحتمية التي وضعناها نحن حيال أهداف الأقوياء، وكأنهم يسيرون الأقدار.
إن استعجال الصراع يفوت على الأمة أي احتمالات ممكنة للتكتل والتحالفات، التي تجعل أمريكا وغيرها تعيد حساباتها في أي قرارات عسكرية يتخذونها بشأن الدول العربية والإسلامية.
أمريكا كانت بحاجة من أجل شن غارتها على العالم الإسلامي إلى مناخ يُمكّنها من التنفيذ، لأن هناك مجتمعا دوليا لابد من قبوله الفكرة ولو كانت تنطوي على خبث وتآمر، فجاءت الضربة لتهيئ ذلك المناخ لأمريكا، واستعجلت الفئة - التي نصبت نفسها للتصرف نيابة عن الأمة- تلك الشرور.
معظم حكام العالم الإسلامي ليسوا أفضل حالا من القاعدة عبر سياساتهم الخارجية الأحادية التي ينتهجونها بمعزل عن الصالح العام للأمة، فإلى متى يظل الحكام والفئات يتصرفون بنظرة ضيقة في أمور تتعلق بالأمة؟ وإلى متى ينوبون عنها بقراراتهم الكارثية؟